منوعات

تجديد اتفاقية اليرموك ومعهدي غوته الألماني والفرنسي

تجديد اتفاقية اليرموك ومعهدي غوته الألماني والفرنسي

نسخ الرابط
إربد 27 آذار (بترا) جددت في جامعة اليرموك اليوم الاتفاقية المبرمة مع معهد غوتة الألماني، والمعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، والسفارة الفرنسية في عمان، لتنفيذ مشروع “التاريخ الشفوي في الأردن”.
جاء ذلك خلال لقاء رئيس الجامعة الدكتور زيدان كفافي مع الدكتور ميشال موتون مدير المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في الأردن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، والدكتورة فلسطين نايلي مسؤولة المعهد في الأردن، وروان الحميمات مسؤولة شؤون التعاون في السفارة الفرنسية.
ونصت الاتفاقية على تنفيذ مشروع حول التاريخ الشفوي في الأردن، الممول من قبل المركز الثقافي الألماني الفرنسي، والمعهد الفرنسي ومعهد غوته، بالتعاون مع الوكالة الجامعية للفرنكوفونية، حيث يتضمن هذا المشروع جمع شهادات شفهية عن فترة الحرب العالمية الأولى من أشخاص سمعوا روايات عن تلك الفترة، على أن يتولى جمع هذه الروايات طلاب من أربع جامعات أردنية، هي الجامعة الأردنية، وجامعة مؤتة، وجامعة الحسين بن طلال، بالإضافة إلى جامعة اليرموك، والمكتبة الوطنية الأردنية.
ويهدف هذا المشروع إلى تدريب عدد من طلاب الجامعات والمختصين على البحث في التاريخ الشفوي وصولا إلى تأسيس مجموعة من الباحثين الشباب الجامعيين، وخلق نوع من الحسّ لديهم بأهمية التراث الثقافي، وتزويدهم بالأدوات والخبرة المطلوبة للبحث في هذا التاريخ، لاسيما وأن الروايات الشفوية تعد مصدرًا رئيسيًّا للتاريخ في الأردن ووسيلة لتوثيق وتحليل الوعي التاريخي والحسّ بالهوية لمختلف المجموعات الاجتماعية التي شهدت هذه الفترة.
كما يتم بموجب هذه الاتفاقية تدريب طلبة الجامعات المشاركة على البحث في التاريخ الشفوي، حيث يقوم بالتدريب خبراء متخصصين في الأنثروبولوجيا والتاريخ، من خلال عقد عدة ورش عمل وجلسات تدريبية لهؤلاء الطلبة.

الرئيسية
مديرية التراث
المشاريع
المركز⦁ الإعلامي
ذاكرة العالم
قواعد البيانات
التاريخ الشفوي قيمته وأهميته   د. عبدالله مطلق العساف

لا يخفى على الكثيرين اليوم أنّ فكرة التّاريخ الشّفويّ قد حظيت في العشريات الأخيرة من القرن العشرين باهتمام لافت من قبل المؤرّخين والباحثين في العديد من حقول العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. وقد خلصت دراسات هؤلاء إلى آراء أبرزت أهميّة هذا النوع من التاريخ وقيمته التاريخيّة، وكذلك أهميّة الدور الذي يمكن أَن يلعبه في توسيع دائرة فهمنا ومعارفنا الاجتماعيّة على صعيد الأفراد والجماعات على حد سواء.
والقول بأنّ دراسة التّاريخ الشّفويّ المعتمد على الرواية الشّفويّة والذاكرة الفرديّة يثير مشكلات عويصة، منها المعرفيّة ومنها المنهجيّة، علمًا بأنّ التّاريخ الشّفويّ قديم في ظهوره، فقد ظهر لدى المؤرّخين المسلمين والأوروبيّين في القرون الوسطى. وما الظهور المجدّد للاهتمام به إلّا دلالة على أهميّته الراهنة بالنسبة للمجتمعات البشريّة.

فالتاريخ الشّفويّ كان ولا يزال أحد الرّوافد المهمّة في التّاريخ الإنسانيّ، لكونه يرتبط بالبحث المرويّ، جمعًا وحفظًا ودراسة، بكيفيّة منظمة، فهو تاريخ مكتوب بشكل رئيسي اعتمادًا على تحقيقات ومرويّات غير مكتوبة (شفويّة)، وهكذا فإنّ العمليّة التي يتشكّل خلالها هذا التاريخ تقوم على تسجيل المعلومات التاريخيّة التي تنطوي على أحداث وأخبار وحفظها وتحليلها. وبهذا يكون التّاريخ الشفويّ، هو كلّ التّاريخ المرويّ عن الآخرين.
ويُعدّ التّاريخ الشّفويّ من هذا الجانب، وسيلة لإعادة رسم حياة حافلة بأحداثها وتفاصيلها، وربما كان الأجدر أن نسمّي هذا منهج يُعنى بالذاكرة الحيّة، لأنّ ما يقدمه التّاريخ الشّفويّ، هو بمثابة إعطاء الدّم واللحم لهذه الأحداث الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الاقتصاديّة؛ ذلك أنّه يعكس المزاج العام للنّاس العاديين، ويسجّل بعض تفاصيل المعيش اليوميّ لهم، في المدّة المراد دراستها اعتمادًا على الرّوايّة الشفويّة (الشهادات) للأحداث التي شهدها شخص أو جماعة ما، وانطبعت في ذاكرتهم، وهنا يُعدّ الراوي الشخصيّة المحوريّة، مثلما أنه يُعدّ خزّانًا غنيًّا بالمعلومات التاريخيّة، بأشكالها المختلفة.

ومما يجدر ذكره أن ثمة أُناسًا كثيرين يخلطون بين التّاريخ الشّفوي والرواية الشّفويّة، والواقع أنهما ليسا شيئًا واحدًا، على الرّغم من قوّة الروابط المفهوميّة والدلاليّة، من ناحية المعرفة التاريخيّة الوثيقة بينهما. فالروايّة الشّفويّة التاريخيّة هي مادّة التّاريخ الشّفوي التي تمدّه بالمعلومات الضروريّة للباحث، وهي تتعلّق بذكريات الماضي لدى شهودٍ أو رواة، بوصفها روايّة شفويّة متواترة، وقد تستمر لأجيال عديدة. وهكذا فقيمة الروايّة الشفويّة تكمن في ما تحمله من تصورات وتمثّلات جمعيّة قد تستمر بفاعليّة في المتخيل الجمعي حقبًا طويلة.
أما التّاريخ الشّفويّ، فيُعدّ شكلًا من أَشكال النّشاط الإنسانيّ، ويشكّل تقنيًّا ومنهجيًّا مرحلة لاحقة على الرواية الشّفويّة، ولكنهما بسبب من علاقتهما الوثيقة بعضها ببعض، فإنّ كليهما يستعملان بشكل منتظم ومُتبادل أحيانًا، ليدلّ كلّ منهما على الآخر ، أو ليتبادلان المعنى نفسه. إلّا أنّ ما ينطبق على التاريخ الشّفويّ في الوقت الحاضر، هو معنى دراسة الماضي، وذلك عن طريق استعمال التواريخ المدّونة والمذكرات الشّخصيّة، إذ يتكلّم الرّواة عن تجاربهم الشّخصيّة، ومعايناتهم الحيّة للأحداث.
ولقد أوجد العصر الحديث نقلة مهمة في موضوع الموادّ التّاريخيّة غير الوثائقيّة، كان من شأنها أن غيّرت نظرة الكثير من الباحثين في التّاريخ، وأصبح التّاريخ الشّفوي لدى هؤلاء مصدرًا مكملًا، يمكنه أن يصحّح أو يحدّد الوقائع التي وثّقتها المصادر التقليديّة (المكتوبة)، وفي حال عدم توفّر الوثائق لأسباب مختلفة، فإنّ الحال يستوجب أحيانًا الاعتماد على الشّهادات والرّوايات الشّفويّة، لاعتبارات عدّة، منها أنّها تشكّل المصدر الأساسيّ للتوثيق التاريخي.

وكان من شأن التقدّم الذي يحدث في مجال التقنية الحديثة، أن جعل هذا النوع من البحث التّاريخيّ ممكنًا ومُتاحًا، غير أنّ ثمة دافعًا آخر أهم من ذلك ويكمن في التوسّع الحاصل في مفهوم البحث التّاريخي أو تعريفه، الذي لم يعد يقتصر على التّاريخ الكتابيّ المعروف بتقاليده العلميّة. ومن المفارقات اليوم أن حقل التّاريخ الشّفوي يعدّ من حيث الاهتمام والتركيز البحثي المتعدد، في مقدمة دراسة التّاريخ، لا سيما مع تزايد أعداد الباحثين والمؤرخين المختصّين بهذا النوع من التّاريخ، كما في حقول العلوم المختلفة.
وفي الآونة الأخيرة أخذ الاهتمام بجمع الروايّة الشفويّة واستعمالها وتوظيفها كمنهج مُعتبر للبحث التّاريخي، يزداد ويطّرد بزيادة الأبحاث والدّراسات التي تعتمد هذا المنهج بشكل كبير. ومع ذلك، فإنّ سِمَة التردّد والشّكّ وعدم الثّقة بكلّ من الرّوايّة الشّفويّة والتّاريخ الشّفويّ، لا تزال تشوب مواقف المؤرّخين التقليديين الذين يشكّكون بمصداقيّة هذا المنهج، ونجاعته في تقديم الحقائق بصورة موضوعيّة موثوقة. وينطلق هؤلاء من أساس أنّ ذاكرة الإنسان ليست دقيقة. مثلما أَن الرواة قد ينحرفون وراء عواطفهم ورغباتهم وتمنّياتهم في وصفهم للأحداث وحديثهم عنها.
بيد أنّ التاريخ الشفويّ يُعدّ لدى المدافعين عنه وعن قيمته، مصدرًا لا يقل أهميّة ولا دقّة عن المصادر المكتوبة، إذا أُحسن استغلاله، وعلى الرّغم من أنّ الروايات الشّفويّة أقلّ استمراريّة أو ديمومة، وأكثر عُرضة للتّحريف من المصادر الماديّة والمكتوبة، إلّا أنّ بعض الوثائق الشفويّة يُحفظ في الذاكرة، وتنتقل من جيل إلى جيل بدون تغيير تقريبًا. وعند هؤلاء أنّ رفض اعتبار التاريخ الشّفويّ مصدرًا تاريخيًّا يعتبر موقفًا رجعيًّا من التّاريخ، الذي يقصر دور المؤرخ على دراسة التّاريخ الرّسمي (تاريخ النخبة)، ودراسة القضايا التي تهمّ تلك النّخبة، ومن شأنه أن يختزل دور الشعب أو العامّة من الناس.
ولا يمكن إنكار أنّ التّاريخ الشّفوي قد أَعطى ويُعطي أبعادًا إنسانيّة طالما كانت منسيّة أو مهمشة عن ميدان التاريخ الكتابي، فضلًا عن أنه يصحّح أو يستدرك مسار عمليّة كتابة التّاريخ التي ظلت حكرًا على سِير القادة والأبطال والزّعماء التّاريخيين والفئات المؤثّرة في الأحداث، ويعيد التوازن إلى عمليّة كتابة التاريخ، ولفت الاهتمام بالفئات والطبقات الدنيا، وتجارب الناس العاديين، كما المهمّشين.
وهكذا فإنّه يُنظر اليوم إلى التاريخ الشفويّ باعتباره حقلًا سخيًّا واعدًا ورافدًا معرفيًّا مهمًّا، يجب أن يُوضع في الخطوط الأماميّة لديمقراطيّة التّمكين للجميع، في معرفة التّاريخ وتفاصيل أحداثه، بما في ذلك حقّ الأجيال المقبلة في الاطلاع على الأرشيف الوطني أو القومي. ولذا لابُدّ من الوعي بالقيمة المعرفيّة والتاريخيّة لمثل هذا النّوع من الوثائق، وتاليًا حتميّة الوعي بقيمة جمعها ورصدها وإنتاجها وحفظها للأجيال، وإتاحتها للجميع. وتلك مهمّة لا تكفيها حماسة العدد المتزايد من الباحثين في هذا النّوع من التاريخ، وإنما يلزمها قيام مؤسّسات وهيئات بحثيّة تتبنى مشاريع كبيرة في هذا الخصوص.
————
التراث الشعبي الأردني معاجم ودراسات ومؤتمرات
العدد 21 – جديد النشر

أحـلام أبـو زيد
كاتبة من مصر
نعرض في هذا العدد لمجموعة من الدراسات تعكس بعض الإنتاج الفكري لحركة التراث  الشعبي بالأردن. وقد تمحورت هذه الدراسات حول التراث الشعبي الأردني بصفة عامة، والأدب الشعبي بصفة خاصة. وقد تميزت هذه المجموعة بتنوع في منهج النشر والبحث، ما بين الكتاب ذو الفصول والأبواب، والموسوعات ذات الترتيب الهجائي، وأبحاث المؤتمرات المجمعة. والأعمال المرتبطة بأحد الأعلام ويُعد الملف الأردني هو الملف الثاني في منطقة الشام بعد أن عرضنا لملف سوريا منذ ثلاثة أعوام تقريباً (في العدد التاسع من هذه المجلة). ونعترف أن هذا قليل جداً على منطقة الشام الغنية بالتراث الشعبي. لذلك نعد أننا سنحاول إعداد الملف الفلسطيني في العدد القادم ثم الملف اللبناني لاحقاً إنشاء الله. أما الأردن فقد أبحرنا خلالها في عالم الأمثال الشعبية، والشعر النبطي الأردني، ومعاجم الألفاظ، والتنوع الثقافي، والتاريخ الشفهي، غير أننا سنبدأ بكتاب هو معلمة بحق كما جاء في عنوانه.
معلمة للتراث الأردني
آثرت أن ابدأ الملف الأردني بهذا العمل الموسوعي الضخم لعدة أسباب أولها أنه يحتفي بعَلم من أعلام الأردن في مجال التراث الشعبي الأردني وهو روكسي بن زائد العزيزي (1903- 2004) الذي عاش 101 عاماً وعرف بجهده الموسع في جمع وتوثيق التراث الأردني في العديد من المجالات، وله أكثر من أربعين مؤلف. أما السبب الثاني فيعود لأن الكتاب يحوي عشرات الموضوعات المتعلقة بالتراث الشعبي الأردني،

وإن غلب عليها الأدب الشعبي الذي هو ثيمة هذا الملف عامة. والكتاب يحمل عنوان «مَعْلَمة للتراث الأردني» ويقع في خمسة مجلدات كبرى، وهو الطبعة الثانية التي أصدرتها وزارة الثقافة الأردنية عام 2012 بعد مراجعة بعض التكرارت وحذف بعض الموضوعات البعيدة عن التراث الأردني، وإعداد الهوامش في مكانها من الصفحة. ومن ثم فإننا أمام مجموعة أعمال كاملة لمؤلف له باع في هذا المجال، ويجب توجيه التحية لوزارة الثقافة الأردنية لتصديها لإصدار هذا العمل الذي يجب أن تسير على منواله وزارات الثقافة النظيرة في البلاد العربية، وإن كانت التجربة المصرية لها باع في هذا المضمار حيث تم نشر الأعمال الكاملة لرائدين في التراث الشعبي العربي هما الدكتور عبد الحميد يونس والأستاذ أحمد رشدي صالح. نعود للمعلمة التي يؤثر المؤلف أن يطلقها على الكتاب بدلاً من مصطلح «موسوعة» أو «دائرة معارف» اعترافاً بفضل أستاذه العَلامة أنستاس ماري الكرملي صاحب هذا الاصطلاح. وقد قسم العزيزي معلمته إلى خمسة أقسام في خمسة مجلدات، تناول القسم الأول موضوع «الأسماء والحكم ومناسباتها وحكاياتها وقصصها» موضحاً قيمة الأمثال في دراسة حياة الشعب وعقليته، ومن ثم كان المؤلف حريصاً على توثيق المثل كما ورد على أفواه الجماعة الشعبية مهما كانت الألفاظ الواردة به، وقد فرق بين الأمثال المرتبطة ببيئة محدودة في مدينة أو إقليم والأمثال المرتبطة بكافة طبقات الشعب والتي قد تتجاوز عدة مناطق عربية. وعلى هذا النحو قدم لنا موسوعة للأمثال مرتبة هجائياً أورد تحت كل مثل شرحاً للمعنى وللمفردات، وقصة المثل إن وجدت، ومضرب المثل، والسياق الذي يردد فيه، ومن ثم فقد نجد أمثالاً لا تحتمل سوى ذكر مضربها فقط في كلمات قليلة مثل:
إلرزق في النطات: مثل يضرب في أن العمل يأتي بالرزق وهناك أمثال أخرى يتبعها المؤلف بشروح وحكايات مثل: كل شيء محسوب احسابه غير ان تخدم اكلابه، ويروى: كل شي حسبنا احسابه غير الدق ع بابه. وهما مثلان يضربان في وقوع ما لم يكن يتصور حدوثه، ويفرد المؤلف لحكاية المثل والأشعار والحكم المرتبطة به. أما القسم الثاني من المعلمة فقد خصصها العزيزي للأسمار والحكايات والألغاز التي يسميها البدو (الفتاوي). والأسمار جمع سمر وهو الحديث في الليل، وهو غير السامر الراقص، غير أن المؤلف استرسل في شرح السامر الراقص دون أن يعرف الأسمار التي نستنتج من الكتاب أنها أحد أشكال الحكايات اليومية وأطلق عليها اسم «تعليلة»، وقد سجل منها 40 تعليلة باللهجة المحلية للرواة شارحاً للمفردات المستغلقة. وأعطى لكل منها عنوان مثل: تسامح وكرم- الدخيل- بين نارين- وشاية- الغيرة..إلخ. وقد احتلت تلك الأسمار ثلثي هذا القسم تقريباً. ثم عرض المؤلف بعد ذلك لأسماء الأعلام التي وردت في تلك الأسمار مشيراً للدرس الاجتماعي المستفاد من كل منها. لينتقل بنا إلى موضوع جديد في هذا القسم وهو الآداب الاجتماعية التي كانت مرعية في الأردن كالآداب بين الزوجين والأهل والأبناء، وآداب الضيافة، والأكل، والقهوة، والطنيب، والحديث، وآداب العونة (التعاون)، والمجالسة، وآداب المرافقة في السفر، والمشاركة، وأداب التعليلة التي يصفها المؤلف بأنها سهرة المحبين تتم عادة بين فتى وفتاة غير متزوجة، فالشاب يقعد خارج الخباء ويحدث الفتاة عن بطولاته ويطري جمال حبيبته والويل له إذا قبلها، فإنه يغرم غرامات باهظة، وتفخر البدويات بكثرة الذين تعللوا معهن، على نقيض ذلك تشعر الفتاة بالحقارة إذا لم يلتفت إليها أحد. كما يفرد المؤلف قاموسا صغيرا تحت اسم المغمز أو الكنايات المتداولة في المأثورات القولية الأردنية، مثال: إبن عيلة: كناية عن الوجيه- إيده خفيفة: كناية عن السارق الحاذق- راديو جديد: كناية عن الثرثار- نشفت ريقه: كناية عمن لقي أشد الأهوال. وأنهى المؤلف كتابه بفصل قصير حول ألعاب الأطفال بداية من سن 15 سنة حتى سن 40 سنة. غير أننا لم نجد في هذا القسم نماذج من الألغاز التي وعدنا بها المؤلف في المقدمة. أما القسم الثالث فقد تناول فيه المؤلف عدة موضوعات في التراث الشعبي في العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية بدأها بباب حول القضاء العرفي بعنوان «أنظمة البادية وحقوقها» تناول فيه قيمة القضاة الاجتماعية وترتيب مكانتهم القضائية، حيث عرض للدعاوي القضائية وتصنيفها، ومراحل المطالبة، وإقامة الدعاوي الحقوقية، وموعد النظر فيها والشهود. ثم انتقل لوسائل الإثبات والمزارات وأنواع العطوة، وجرائم العرض الكبرى، وبعض الحقوق المتفرقة، منتهياً بالقضايا الحقوقية ومعالجتها. ثم تناول العزيزي مجموعة أخرى من الموضوعات المتعلقة بالعادات والتقاليد الأردنية، حيث سجل بعض العادات المرتبطة بالأفراح كعقد الزواج، واحتفالية الزفاف والنقوط، كما عرض لعادات الوفاة المرتبطة بالنواح والمعيد والندب والرثاء، ثم العادات المرتبطة بالجركس وأصولهم، ثم الذبائح وأنواعها، وتوصيف بيوت الأرادنة وتطور ملابسهم، والمعارف المرتبطة بالطب الشعبي، منهياً هذا القسم بباب حول أوابد الجاهليين وأوابد الأرادنة والوشم. أما القسم الرابع من المعلمة فقد خصصه العزيزي لثلاثة موضوعات مختلفة، الأول عرض فيه للشعر الشعبي والشعراء الشعبيين أمثال: سالم القنصل، وجميل ابو العثم، وسالم الفلاح الشاهين، وعبدالله العكشة، وابو الكباير، وعبدالله اللوزي، وسلامة الغيشان. ثم خصص فصلاً حول بعض الأشعار مجهولة المؤلف. أما الموضوع الثاني فقد تناول فيه موضوع الخيل ونشأتها وتدجينها وكراماتها متناولاً أصول بيع الخيل الأصيلة والمعاني والرموز المرتبطة بالخيل، والخيل في الديار الأردنية. أما الموضوع الثالث فقد خصصه للأرادنة ومعارفهم حول الأنواء أتبعه بباب اشتمل اصطلاحات الفلاحة والزراعة عند الأرادنة. أما القسم الخامس والأخير من معلمة التراث الأردني فهو عبارة عن معجم قيم اشتمل على شرح وتأصيل للألفاظ الأردنية مرتبة هجائياً. وهذه التجربة قد تمت في عدة بلدان عربية منها الإمارات ومصر والجزائر.. ومن جانبنا نأمل أن تكون الفرصة مواتية لإصدار معجم موحد للألفاظ العربية. وقد أورد العزيزي المفردة الشعبية وشرح مفهومها الثقافي حسب مقصد الجماعة الشعبية، ثم شرح التأصيل اللغوي المعجمي لها من لسان العرب. وعلى هذا النحو اشتمل المعجم على مفردات خاصة بالأدوات، والأطعمة، والتعابير اليومية، والطب الشعبي، وأداب السلوك.. وكافة المفردات المستعملة في سياقها الشعبي، مثال: أفلت، وانفلت؛ انطلق فجأة، وإذا قالوا فلتان، عنوا بذلك أنه طلّق كل القيم، ولم يعد يتقيد بشيء مما يصون الأخلاق، والأنثي فلتانة، والجمع للذكور فلتانين، وللإناث فلتانات، وفلتة فجأة، وإذا قالوا ولد فلتة، عنوا بذلك أنه عبقري. وفي اللغة (أفلتني الشيء) وتفلت مني وانفلت وأفلت فلان فلاناً خلّصه، وأفلته غيره، والفلتة الفجأء. لسان العرب، مادة (ف ل ت). ونأمل لهذا العمل المتميز في طبعاته القادمة أن يسجل موضوع كل مجلد على الغلاف ليتيسر للقارئ التعرف على محتوى المجلد بيسر. ونكرر في النهاية الإشادة بوزارة الثقافة الأردنية لإصدارها هذا العمل الذي يُعد مجالاً خصباً للباحث الذي يريد التعرف على التراث الشعبي الأردني بكافة مجالاته، وهو وثيقة يفخر بها كل أردني عاشق لهذا التراث.
ألوان من التراث الشعبي
وفي إطار بحث التراث الشعبي الأردني صدر في 2011 كتاب طه الهباهبه بعنوان «ألوان من التراث الشعبي في الأردن» عن وزارة الثقافة الأردنية، ويقع الكتاب في 191 صفحة، يعرض فيه المؤلف التعريف الأولي لكلمة «تراث» كما ذكرت في بعض آيات القرآن الكريم،
مشيراً لكونها كلمة أصيلة مستمدة من ينبوع الحضارة العربية والإسلامية، وتعني كل مايخلفه الإنسان لورثته من بعده، ويشير إلي ضرورة الحفاظ علي التراث من أجل الحفاظ علي الهوية الوطنية بشكل خاص وعلي الوحدة القومية بشكل عام، ثم يعرج إلي كلمة الثقافة في جدلية تؤكد أن مفهوم التراث (مصطلح العامة) وهو الأقدم في مخزوننا المعرفي، وهو ما ينتشر بين عامة الناس من أفكار وتجارب وخبرات، أي أمثالهم وألفاظهم وتعبيراتهم وقيمهم ومعتقداتهم وصنائعهم.
هذا المفهوم قد تراجع الأن أمام مفهوم الثقافة الوافد إلينا من الدراسات الغربية. ثم يستعرض أهمية التراث كسلاح يواجه به الشعوب أشكال الغزو الثقافي في وقتنا الحاضر. ويشمل الكتاب العديد من الموضوعات المتفرقة حول التراث الشعبي في أربعة فصول، بدأها الهباهبه بفصل حول الحصاد متناولاً موسم الحصاد الذي يأتي عادة في أشهر الصيف، وأدوات الحصاد الرئيسية وهي اليد البشرية التي تستخدم في قلع الزرع، والمهارة التي يملكها الحصَّاد في ذلك، مع ترديد الأغاني التي تتعلق بالحصاد وطقوسه. ثم المنجل: وهو قطعة حديد على شكل علامة استفهام ويستخدم في قطع سيقان القمح أو الشعير..إلخ. ثم يتناول في الفصل الثاني المعنون «الوشم ذهب الفقراء» مفهوم الوشم والعادات والأشعار المرتبطة به. وقد عرف الأرادنة هذا اللون التراثي ومارسوه صناعة وتطبيقاً عملياً، ثم يعرض للأماكن التي يتم بها الوشم على الجسم سواء على ساعد اليد أو ظهر الكف أو بين العينين، أو الأنف، أو الشفاه..إلخ، ولكل طريقتها وأشكالها المتعددة وأدواتها. وقد أطلقوا على الوشم أسماء كثيرة أهمها: الدق- النقش أو النقرشة أو المنقرش- النكت- الخال. أما الفصل الثالث فقد خصصه المؤلف لأغاني الصيد والبحر المرتبطة بمدينة العقبة الأردنية، مسجلاً للعديد من النصوص المرتبطة برحلات البحر والممارسات المرتبطة بها كرفع الأشرعة:
ياويلا دانه دان دان
ياويلا دانه
والله الزمان الزمان الزمان                            خلي رماني
لنصب شراع العال                                    براسك يا فرمان
وامشي بوسط الباح
وامسك السكان
ويقارن المؤلف بين أغاني البحر في الأردن وفلسطين ومنطقة الخليج، كما يعرض لأثر اللهجة المصرية واللهجة السعودية على أنماط الغناء عند الصيادين. أما الفصل الرابع والأخير فقد خصصه المؤلف للألعاب الشعبية الأردنية والتي يرى أنها قد تتشابه مع الكثير من البيئات العربية وغير العربية مع اختلاف بعض الألفاظ. ومن بينها ألعاب: طابة الشرايط- سبع جور- القلول أو الدواحل أو الروس أو البنور- الدحله أو الدحروج- قرد وشارة او (أنويقيسه)- الخويتمه أو الفنيجيله أو الصينيه- دق ذويب ع الغنم- حدره بدره- الشده- السيجة- سيجة المقص او القطار- الحاب- الطاب- الفنة- القلعة..إلخ. ويقدم المؤلف شرحاً لطريقة كل لعبة ومراحلها والغناء المصاحب والأدوات إن وجدت. وقد صاحب الكتاب في فصوله الأربعة العديد من الصور التوضيحية التي ساهمت في شرح المواد التراثية التي قدمها المؤلف.

كتابان لهاني العمد حول الأمثال والأدب الشعبي
خلال عام 2008 صدر كتابان لهاني العمد وهو من رواد التراث الشعبي الأردني، ونتصور أن الكتابين يكمل كل منهما الآخر، فالأول هو معجم مصنف للأمثال الأردنية، والثاني مجموعة دراسات متخصصة معظمها أبحاث تحليلية حول الأمثال الشعبية تفسر العديد مما جاء بالمعجم، إلى جانب بعض الدراسات حول الشعر والنكتة وألف ليلة وليلة. أما المعجم فهو  مصنف ضخم قارب السبعمائة صفحة بعنوان «الأمثال الشعبية الأردنية» صدر عن وزارة الثقافة ضمن سلسلة كتاب الشهر رقم 134. والكتاب صدرت له عدة طبعات، وفي كل مرة يضيف المؤلف الجديد، إلى أن بلغ عدد مواد هذه الطبعة 5000 خمسة آلاف مثل.

ويشير العمد إلى أن هذه الطبعة تتميز بإضافة بعض الأمثال العربية التي وردت في كتاب «ألف ليلة وليلة»، ولها ما يشبهها في الأمثال الأردنية، منها ما جاء بنصه، ومنها ما جاء التشابه في المعنى. ويضيف قوله: لعلي أتمكن من إضافة ما أورده الميداني من أمثال في كتابه «مجمع الأمثال» وأجد له نظائر في أمثالنا الشائعة في الأردن، وذلك في طبعة قادمة إنشاء الله.
ومن خلال الفهرس سنجد أن المؤلف رتب الأمثال هجائياً، وقد رقم أمثال كل حرف ترقيماً مستقلاً بذاته فحرف الألف يبدأ من 1 حتى 876 وهو من أكثر الأبواب احتفالاً بالأمثال. أما حرف الباء فيبدأ من 1 حتى 275 . أما حرف الثاء فيبلغ 22 مثلاً فقط وهكذا. وقدم العمد العديد من التفسيرات عند كل مثل، أهمها أنه حدد مضرب كل مثل، وهو العنصر الأساس في شرح موضوع المثل الشعبي. كما قدم شرحاً للمفردات التي قد تستغلق على القارئ، ويحسب للمؤلف أنه اجتهد في ضبط مفردات الأمثال بالشكل بدقة متناهية حيث أسهم ذلك في التعرف على نطق كل مثل حسب سياقه الشعبي. ثم أنه قدم التنويعات التي وردت حول المثل إن وجدت، فضلاً عما ذكره في المقدمة من إضافة بعض الأمثال التي وردت في كتاب ألف ليلة وليلة. وتبدأ أمثال هذا الكتاب بحرف الألف الذي يتصدره المثل التالي:
آبْ أُقْطُفْ اْلْعِنَبْ وْلاَ اتْهَابْ.
وكذلك: إنْ هَلْ آب كُلْ عِنَبْ وْلاَ اتْهَابْ.
وكذلك: لَنْ مَرْ آبْ وما ذَرِّيت عِدَّكْ بالهَوَا انْغَرّيتْ.
يضرب في طبيعة شهر أب.
ويرد مع المثل شرحاً لبعض المفردات:
عدك: كأنك- إنغزيت: أصبحت هدفاً للخديعة.
والمثل على هذا النحو يقع ضمن المأثورات القولية التي تكشف عن الطبيعة الطقسية الزراعية المرتبطة بالريف، على نحو ما يرد من أمثال حول الشهور القبطية في مصر: برمهات روح الغيط وهات..إلخ. وجميعها تحتاج لجمع ميداني عربي لرصدها وتوثيقها. حيث نجد العديد من التشابهات العربية في مضمون المثل: لبس المذراه بتصير امراه. وكذلك: لبس المقشا بتصير ست النسا. والمثلان كما قدمهما العمد يضربان في قيمة المظهر وقدرته على خداع النظر. وفي مصر: لبس البوصة تبقى عروسة..إلخ. غير أننا قد نجد بعض الأمثال التي أوردها المؤلف قد تكون غير مكتملة وقد وضع عدة نقاط مكان الكلمة الناقصة، مثال: ….. واحد عيب على كل العطارين (يضرب في أن السيئة تلغي جميع الحسنات)، أو المثل: كل قوم ولا…… امقشطين النور (يضرب لكل من خرج عن المألوف والمعقول). وقد تكون هذه النقاط محل كلمات خارجة أو غير مفهومة عند التدوين أو لأسباب أخرى، غير أن المؤلف لم يذكرها لنا.
ولعل أهمية هذا المعجم – ولا نقول الكتاب- تأتي من غزارة مادته وحرص صاحبه على التوثيق والشرح ومتابعة كل ما يستطيع جمعه من جديد الأمثال من حين لآخر، مما يجعلنا نطلب من الأستاذ الجليل الدكتور هاني العمد أن يقدم لنا في الطبعة القادمة تصنيفاً موضوعياً لهذه الأمثال، أو كشافاً يعكس مضارب هذه الأمثال من الناحية الموضوعية حيث سيسهم ذلك في الكشف عن العديد من العناصر الثقافية الأردنية. فإذا نظرنا لمجموعة الأمثال التالية سنجد الحاجة الشديدة لمثل هذا التصنيف الموضوعي:
بخت المعدل امبدل (يضرب في أن الحظ لا يستقيم لأحد)
تحكي الكلمة وتخبى بالقرنه (يضرب فيمن كان طبعه الدس والتحايل)
حط اللحمة قدام البس وقاله: هُص (يضرب لمن لا يحسن التصرف)
خلي الشختورة مطمورة (يضرب للحث على تناسي مثالب الآخرين)
شو جابت لدار ابوها (يضرب فيمن لا يأتي بجديد)
لنذال ما تنشرب قهوتهم (يضرب فيمن لا يحافظون على شرف الكلمة)
هذه الأمثال لا يجمعها سوى الترتيب الهجائي فقط رغم أنها تتعرض لموضوعات عدة كالحظ والتحايل وحسن التصرف والعفو والشرف..إلخ) مما يجعلنا نؤكد دعوتنا للدكتور هاني العمد بأننا في انتظار تصنيف موضوعي في الطبعة القادمة.
أبحاث في الأدب الشعبي
أما الكتاب الثاني لهاني العمد فيأتي في إطار الدراسات والأبحاث الأكاديمية المجمعة، حيث  صدر عام 2008 الطبعة الأولى من كتابه «أبحاث في الأدب الشعبي» عن دار نشر أمانة عمان الكبرى، الدائرة الثقافية، والكتاب يقع في 328 صفحة، اشتمل على مجموعة دراسات متفرقة للمؤلف تتمحور حول الأدب الشعبي من بينها مجموعة دراسات تحليلية لموضوع المثال وهو ما جعلنا نشير في المقدمة إلى أن هذا الكتاب قد يكون مكملاً لموسوعة الأمثال التي عرضنا لها منذ قليل. والحق فإن المؤلف في مقدمته قد عرض لمحتوى تلك الدراسات بمنهج مميز، لم يكن لدينا حيلة في التصرف فيه، أو إعادة عرض تلك الدراسات بطريقتنا، ومن ثم سنعرض ما أورده المؤلف حول تلك الدراسات دون تدخل منا.

يقول هاني العمد:
في البحث الأول «الأمثال الحوارية: الأمثال الشعبية الأردنية أنموذجاً» درستُ الأمثال التي تُعنى بالحوار بقصد إظهار أهميتها في مجموعة الأمثال الشعبية الأردنية، وأظهرتُ صيغها التي تنحو نحو الإختصار الشديد، وتقوم على بناء تشويقي، وتتضمن فكرة تتطلب الفهم العميق للطبيعة البشرية. كما استعرضتُ إيحاء الكلمات في هذه الأمثال، وقدرتها على حمل أصوات مختلفة، مظهراً بناءها اللغوي، وكذلك عناياتها في موضوعات الحياة العامة العادية، دونما الدخول في التفاصيل. وقد ظهر لي أن بعض هذه الأمثال تتضمن جدلاً أو حواراً خفياً.
وكان وسيلة لتقطير الأفكار لا تقريرها، ومجالاً للنفاذ إلي جوهر الأشياء مما يعني أن هذه المميزات مجتمعة تخلق حالة من الحرية التعبيرية أمام من يستعملها، بصرف النظر عن الناس الذين قد يتفقون في أثناء الحوار وقد يختلفون. وفي البحث الثاني المعنون بـ «شعر البكائيات النسوي في الأردن: بكائيات البلقاء أنموذجاً»، تحدثت عن أهمية النص الشعري النسوي، ولاحظتُ أن هذا الشعر مليء بالقضايا التي تستحق التعليق والتحليل، وانطلقتُ من دراسة العلاقة القائمة بين شعر المرأة وحادث الموت، حيث تقوم المرأة بإثارة جملة قضايا، وتشير إلي أحداث مثيرة، الأمر الذي يدلنا علي رأي المرأة في حادثة الموت، وكيفية تعاملها مع هذا الحادث. كما يطلعنا هذا الشعر على تصورات المرأة ومعتقداتها، لذلك اتجهتُ إلي دراسة موضوعات هذا الشعر، ومعانيه وما تضمن من حوار داخلي ومشاهد احتفالية. وفي هذه الأثناء بَيّنَتْ المرأة بشاعة الموت عندما يصيب أحد أفراد الأسرة. هذا إلي جانب عنايتي بتحليل معاني هذا الشعر، وموقف المرأة من الغيبيات وتصوراتها للقبر ومايجري فيه. كما أبنتُ ما في هذا الشعر من جودة وإتقان ورصانة، فضلاً عن الارتجال وسرعة التأليف، وتطويع بعض القوالب لاستيعاب الجديد. وفي البحث الثالث «الأمثال الشعبية الأردنية الثلاثية: دلالات النص والأسلوب واللغة» بَيّنْتُ أن المقصود بهذه الأمثال تلك التي تتعامل مع ثلاث قضايا أو وقائعَ ووردت في المثل الواحد. لذلك كان علي أن أبين مضربها وتأويلاتها القابلة للتغيير والتبديل. كما أشرتُ إلى دلالات النص من حيث هي كلمات وأسماء، في حين بحثت في روابط النص المَثَلي. ولأن أسلوب هذه الأمثال تتميز ببعض العوامل الطريفة، فقد أوضحت عناصر سلسلة الكلام، وقدرة المثل على حمل القارئ أو المستمع إلي الانتباه والتركيز. مشيراً إلى اللغة التي لعبت دوراً مهماً في الصياغة والتركيز والاختصار. وذهبت إلى أن للنص علاقة إسنادية، وأن للألفاظ منحى دلالياً يحدد ماهية الأسلوب والتركيب والإحالة. ولا يكاد يخلو نص مَثَلي من ضمير أو اسم إشارة أو حرف جر. مع ميزة إضافية وهي أن الكلمات لاتجود بالمعنى فقط وإنما تتعامل بالوظائف التي تظهر من خلال الخطاب. أما البحث الرابع المعنون بـ «ملامح النكتة الشعبية في الأردن: ثقافة شعبية متحركة وفاعلة» فقد بيَّنتُ فيه فعل النكتة الشعبية وشيوعها بين الجماهير والمجتمعات. وكان لابد من إظهار الخلاف بين النكتة والنادرة، وتبيان ملامح الشخصية الساخرة، وإظهار أسباب انتشار النكات في المجتمع الأردني، وتطورها، وارتباطها بالنقد الاجتماعي، وبَيّنْتُ كيف ساعدت التكنولوجيا المعاصرة على سرعة انتشار النكات، فضلاً عن جرأتها في نقل الواقع، وقلة عناياتها بالوقار الأخلاقي وتحطيمها للمحذورات. ولم تجمع النكات التي سادت وتسود في المجتمع الأردني. ومع ذلك، فقد جمعتُ حوالي 250 نكتة، وأخضعتها للدراسة والتحليل. وقد انحصرت دراستي في جوانب محددة هي: تقنية النكتة ومرتكزاتها اللغوية، والسرد الشفاهي وأهميته في مجال النكتة وشيوعها، فضلاً عن صياغتها على أسلوب السؤال والجواب. إلى جانب عناياتها بالمشاهد التصويرية وما تحمله من معارف قادرة علي كشف الحُجُب وتجسيد الواقع. وفي المبحث الخامس درستُ الأمثال المتشابهة في كتابين هما: مجمع الأمثال للميداني، والأمثال الشعبية الأردنية، وهي المجموعة التي قمتُ بجمعها وما زلت ابتداءً من أواخر الستينات من القرن الماضي. وقد بلغ عدد الأمثال المتشابهة في المجموعتين 124 مثلاً، تشابهت في اللفظ والمعنى والمضرب إلي حد ما. وكان لابد من قراءة معاصرة لأمثال الميداني، تمهيداً لمقاربة النصين، والتعرف على المدلولات المتشابهة، ومراقبة مواطن الاختلاف من حيث اللغة والبنية النحوية. ودرستُ أسباب التشابه، كما تناولت فكرة الحيز المثلي، حيث أظهرتُ أن المثل من خلال ألفاظه ومعانيه له حيز يحتله، ومشهد يظهر من خلاله. ثم ذهبت إلي تحليل علاقة المثل بالواقع الاجتماعي. وألحقتُ بهذا البحث ملحقاً تضمن النصوص المثلية المدروسة في كلا الكتابين. وقد خلصتُ إلي أن الأمثال قد وُظّفتْ لخدمة المجتمع وحركته في كلتا المجموعتين.
ويهدف البحث السادس الموسوم بــ «صورة المرأة في الأمثال الشعبية الأردنية» إلى توضيح ملامحها في هذه الأمثال، باعتبارها تجارب قد حدثت ويمكن حدوثها. وقد أظهرت أمثال المرأة جرأة في طرح قضاياها ومشكلاتها. وبَيّنتُ أن كثيراً من الأمثال قد كُرِّسَتْ لغرس سوء الظن بالمرأة، وأن صورتها سواء أكانت إيجابية أم سلبية، ظهرت أكثر وضوحاً من صورة الرجل، ربما لأن الأمثال اقتحمت عالمها دونما استئذان، وارتبطت بحياتها منذ الولادة حتى الممات، وشَرّحتْ مسلكياتها بطريقة شفافة. ونالت الألفاظ ودلالتها والأسلوب وميزاته اهتماماً ملحوظاً باعتبارهما وسائل حيازة، كان لابد من مناقشتها لفهم مدارات المثل النسوي. فلغة الأمثال الخاصة بالمرأة بدت قاسيةً ومكشوفةً، وكان خطابها غير متساهل أو مجامل، بحيث أفقدت هذه اللغة ثقة المرأة بنفسها، وأظهرت الفوارق الاجتماعية بين الرجل والمرأة، ورَكّزتْ بشكل ملفت للنظر على ما في شخصيتها من نقص في الدين والخلق، الأمر الذي أدى إلى تفوق الرجل عليها، فضلاً عن تصورها بأنها كائن ضعيف يحتاج على الدوام لحماية الرجل. وركزت الأمثال أكثر ما ركزت على الصورة العاطفية للمرأة، أكثر من تركيزها على الصورة العقلانية، وأظهرتها بالوضع الذي صنعه لها الرجل. وعندما استعرضتُ صورتها عبر التاريخ والحضارات المختلفة، وفي الأجناس الأدبية العربية، لاحظت أن الأمثال تتفوق على جميع هذه الأجناس، فكانت أوضح تصويراً لتاريخ المرأة وواقعها. وقد تأكد لي أن معظم الأمثال كان من صنع الرجل، وأنها تقدم كشفاً لحياتها وأوضاعها وأطوارها وكأنها تقدم سجلاً لحياتها منذ البداية وحتى النهاية. أما البحث الأخير المعنون بـ «خطاب الجنس في كتاب ألف ليلة وليلة» فقد أوضحتُ منذ البداية أن الكتاب في الأساس قصصي وروائي، وهو شرقي المنشأ، عربي البيئة، يصوّر كثيراً من المجتمعات العربية، ويشترك في قصصه عوالم عدة، وتتداخل فيه الأساطير والخرافات والخيال العلمي، إلى جانب منظومة من العادات والتقاليد ومظاهر الترف والجاه، فضلاً عن عنايته بطبقات المجتمع العربية كافة. لقد بقي النص مفتوحاً حتى القرن الثامن عشر الميلادي، فكان سلسلةً منسجمةً من الأفعال التي تؤدي جميعها إلي تصوير الجنس وأوضاعه، والسلطة ومكائدها، والحياة وتقلباتها، وعندما أقفل النص بالتدوين بقي شاهداً على مايتمتع به القاص الشعبي من حرية في التعبير. وقد لاحظتُ أن الجنس يشمل معظم صفحات الكتاب، وله خطاب يقوم على فكرة أن المرأة هي أساس الخيانة والمكر، وهي ناقصة عقلا ودينا، وحياتها تقوم علي الجنس الذي لا يعرف الحياد أو المراوغة أو التستر، وقد يصل إلي حد الإنفلات الجنسي والفوضي، بدليل أن معظم القصص جاءت متساهلةً مع الأخلاق.
وربما أرادت شهر زاد من خلال إقحام الجنس في خطابها السيطرة على عواطف الملك شهريار وتحويله إلي رجل قادر على أن يسمو على جراحه. لذلك كانت تقص عليه حكايات لا تضبطها ضوابط أخلاقية، لتنقله من حالة الشقاء التي يعيشها إلي صاحب سلطة رُدَّ إليه اعتباره. ولأن الجنس كان مفتاح علاج شهريار، مثلما كان مأساته، فقد أرادت شهرزاد استعراض جميع أنواع النساء علي مسامعه، لتتمكن من السيطرة على عواطفه، وتنشيط تخيلاته، وتحويل تفكيره إلى رغبات جنسية، وإقناعه بأن النساء لسن كلهن مثل امرأته الخائنة. ويختم العمد مقدمته بقوله: أستطيع القول بأن منهجي في هذه الأبحاث لم يكن متشابهاً، إلا من حيث كونه معنياً بالتحليل البنائي والاهتمام بالمعاني والأسلوب واللغة. وكنت أعتني بجمع مادة البحث، وأقوم بالاستشهاد بها، وتعيين مواقعها في المظان والمصادر المختلفة.
الشعر النبطي الأردني
في إطار جمع وتحليل الشعر النبطي الأردني تطالعنا المكتبة الأردنية بكتابين صدرا عام 2010، وقد استطاع صاحب كل كتاب أن يقدم الجديد في المجال. الأول هو الطبعة الأولى لكتاب علي عبيد الساعي بعنوان «من روائع الشعر النبطي» عن سلسلة إبداعات رقم 60 الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية. والكتاب يقع في 137 صفحة من القطع الصغير يضم مجموعة مميزة من روائع الشعر النبطي إلى جانب مجموعة اختارها المؤلف لتضم نماذج من الشعر النبطي لبعض الشعراء الأردنيين. وقدم الكتاب الدكتور محمود رمضان الجبور الذى سجل رؤية علمية للأدب الشعبي وأهميته، مشيراً إلى أن النماذج الواردة بالكتاب تُعد من عيون الشعر البدوي، ويصح أن يٌطلق عليها «معلقات الشعر البدوي»، وقد أطلق السلف من أبناء البادية على بعضها مصطلح «شيخات القصيد»، وهم مجمعون على قيمتها الفنية والقيمة وإن اختلفوا في تحديدها وعددها، اختلاف النقاد العرب حول المعلقات، كما أنهم لم يحددوا المعيار الذي اعتمدوه في تقييمها، غير أن الناظر في هذه القصائد لا يعدم أن يلحظ ملحظاً بارزاً فيها، ذلك أنها تتناول منظومة القيم والأخلاقيات التي يعتد بها البدوي ويحاول جاهداً الحفاظ عليها وتعليمها لأبنائه، وهي خلو من الغزل بنوعيه العذري والصريح.

وقد احتوى القسم الأول من الكتاب عشرين قصيدة لسبعة عشر شاعر من شعراء العرب على النحو التالي:
قصيدة «لي بنت عم ما مشت درب الادناس» لشرعان بن فهيد بن ارمال الشمري، والنصايح (شيخة القصيد الأولى) لمحمد حسين الدسم الدوامي العنزي، و«قم يا فريد» لمنصور عزام، و«يا مالك» للشريف بركات الحسيني، و«أيامنا والليالي» لبديوي الوقداني، و«يامحلا الفنجال» لراكان بن فلاح بن حثيلين العجمي، و«ياعيال» لسويدان الحلامي، و«مناظرة بين الجمل و(الطرمبيل) لأحمد عطية الغامدي، و«يابجاد» لغانم اللميع، و«عديت روس مشمرخات الشواهيق» لمريبد العدواني العنزي، و«الله يالمطلوب» (شيخة القصيدة الثانية) لمقحم الصقري، و«لاخاب ظني بالرفيق الموالي» لمحمد بن أحمد السديري، و«الخلوج» لمحمد عبد الله العوني، وثلاث قصائد (القهوة ، فكرت بالدنيا، الصبر محمود العواقب) لمحمد عبدالله القاضي، و«يا الله باللي كل حي يسالك» لمحمد ابن عون، و»يا راكب» لمسعود عبد إبن هذال، و»قصيدتا» (يا موقدين النار، ونيت ونه من سرا الليل) لمشعان بن هذال. وتعرض القصائد للعديد من القيم التي يعكسها هؤلاء الشعراء العظام، فتكشف قصيدة النصايح لمحمد العنزي عن العديد منها:
يا خوي لك عندي وصاة مصيبة                                ترى وصاتي تلمس العقل وتصيبه
ترى وصاة أخوك ما به معيبه                          لا صار أخوك مكمل العقل ومنيبه
أخاف تموت ولا ذرا تلتجي به                                  توزي لضيقات الدروب الضنابيب
حيث الليالي ما تعلم بغيبه                               ولا يعلم إلا صاحب العلم بالغيب
وقد أفرد المؤلف ثلاث قصائد للشاعر محمد القاضي الذي يتغزل في وصف القهوة العربية:
دنيت له من غالي البن مالاق                           بالكف ناقيها عن العسف منسوق
احمس ثلاث يا نديمي على ساق                            ريحه على جمر الغضا يفضح السوق
اياك والنيه وبالك والاحراق                          واصحى تصير بحمسة البن مطفوق
ثم يتألق القاضي في قصيدته «الصبر محمود العواقب» التي يبدأها بتلك الأبيات:
الصبر محمود العواقب أفعاله                            والعقل أشرف ما تحلت به الحال
والصمت به سر سعد من يناله                                  والهذر به شر وشوم وغربال
حقيقة الأمر لقد وفق المؤلف في اختيار عيون من الشعر النبطي الممتعة التي قد تعيد للأجيال الحالية روعة هذا الفن، ومن ثم فقد حاول المؤلف أن يقدم لنا ما استطاع جمعه من بعض نماذج الشعر النبطي الأردني، ويشير لهذه النقطة بقوله «.. ورأيت أن يكون للشعراء الأردنيين نصيب في هذا الديوان، لأنهم حرموا من طباعة نتاجهم الشعري أو الترويج له، إلا ما ورد على ألسنة الرواة وسيجد القارئ الكريم في نهاية الديوان ست قصائد لشعراء أردنيين قدامى وإنني إذ أقدمهم للقارئ الأردني أعتذر له عن عدم قدرتي على البحث عمن سواهم بسبب المرض وعدم القدرة على السفر الذي يتطلبه البحث عن الرواة، رغم أن هنالك من يستحق مثل الشيخ حديثه الخريشا والشيخ سعود المصبحين». أما القصائد الست التي اختارها المؤلف للشعراء الأردنيين فهي قصيدة فلسطين لعبيد الساعي الخالدي، والبارحة يوم الخلايق نياما لنمر العدوان، ووالله ثم والله دين بالاشهاد لمحمد الغدير الخلايلة، والصلوات الخمس لمحمد الغدير، والمهرة لرثعان ابن ماضي، والتتن لسليمان الماضي. وسنجد بين نصوص الشعر النبطي الأردني ما يتصل بأحداث سياسية على نحو ما نجده في قصيدة فلسطين التي قالها الساعي في إحدى معارك القدس بين العرب واليهود سنة 1948. أما الشيخ نمر العدوان فيستدعي الكثير من الشجون في قصيدته «البارحة يوم الخلايق نياما»، فيقول:
البارحة يوم الخلايق نياما                     بيحث من كثر البكا كل مكنون
قمت أتوجد وأنثر الما علاما                   من موق عينٍ دمعها كان مخزون
وعلى حين يسرد المؤلف جانبا من حياة الشاعر محمد الخلايله، فيخبرنا بأنه توفي عن عمر لم يتجاوز الست والأربعين عاماً على إثر مرض أخطأ من وصف له العلاج، نجد قصيدة هذا الشاعر كما لوكان يصف مرضه قبل موته:
والله ثم والله دين بالاشهاد                     وحق الرسول وحق رب البرية
اني عليل ولا تهنيت بوساد                    ولي علة جوى الضماير خفية
أما الشاعر محمد الغدير فقد سجل له المؤلف قصيدة أعجبت أهل مدينة السلط الذين جمعوا لصاحب القصيدة دية ثلاثة رجال، وكان قد ذهب للسلط يطلب نصف دية رجل كان صاحبنا قد كسر أحد أطرافه، تقول مطلع القصيدة:
أول مبتدا الله أكبر                             وذكر الله كما مسك وعنبر
على ما دبر المعبود نصبر                            حمدنا الله على فعله وفنه
وعلى هذا النحو يجول بنا المؤلف في قصائد يحكي قصة بعضها حيناً، ويحكي عن سيرة صاحبها حيناً آخر. وإذا كان المؤلف قد أضناه التعب من البحث والسفر لأجل جمع هذه النصوص، فهي دعوة لجيل الباحثين من الشباب الأردنيين ليستكملوا الطريق لتوثيق تراثهم الشعبي النبطي الذي يليق به أن ينشر في عمل ضخم. أما الكتاب الثاني حول الشعر النبطي الذي صدر عام 2010 أيضاً فقد كان بعنوان «ألوان من الشعر النبطي في الأردن وما حوله» لمصطفى الخشمان وهو من نشر المؤلف بعمان، ويقع في 172 صفحة من القطع المتوسط. والكتاب هو الجزء الثاني للعنوان نفسه، وللأسف لم نتمكن من العثور على الجزء الأول الذي عرض فيه المؤلف لعلاقة هذه الألوان بالأنباط أجدادنا القدماء وكيف استمرت حتى هذا التاريخ. أما هذا الجزء فيعرض فيه المؤلف لألوان الشعر النبطي الدارج في منطقة الأردن وما حولها وهي: الجهيني والسامر والعرضه والجوفية وأبو رشيده والأهازيج والحداء.

وإذا كان كتاب علي الساعي قد ركز على الشعراء من أعلام الشعر النبطي فإن الخشمان قد ركز هنا على الكشف عن ألوان الشعر النبطي وتحليلها، وتوضيح الرقص الفولكلوري المرافق لكل لون، مع شرح طريقة الرقص والإيقاع. وتبقى مسألة جمع مادة الشعر النبطي أيضاً من أصعب الأعمال الميدانية التي تتطلب الوصول إلى الثقاة الحافظين لهذا النوع من الشعر مع اختلاف لهجاتهم وصعوبة فهم بعض الكلمات التراثية التي قل أو بطل استعمالها. ويبدأ المؤلف باستعراض شعر الهجيني وهو شعر شعبي على بحر الوزن المخلع البسيط، وهو من أكثر أنواع الغناء النبطي شيوعاً بالمملكة الأردنية، ويعرفه الشعب الأردني بكافة فئاته، بل ويستطيع أي شخص أن ينظم منه بيتاً أو بيتين حسب العاطفة التي تتملكه. ويغنى بألحان متنوعة حسب المناسبات والأوقات والأمكنة، وترافقه العود وبعض الآلات الموسيقية كالربابة. ويستعرض المؤلف أصل التسمية، وموطن الهجيني. أما موضوعات الهجيني فتتناول الكرم والطيب والحنين للأماكن:
الزين كله برام الله                                     واللي ورا القدس من غاد
وغزل المرأة بالرجل:
يا ولد يا بو خيالا زين                                يا صقر وارد على المية
وكذا يتناول الأمثال والحكم الدارجة والشكوى وقطع الأول والمداعبات:
حُطي على النار يا جده                                       حطي على النار عيدان
ربي حسيبا على النسوان                                      هرج القفا ما يخلنه
لو جلالات يالكاسه                                    رايق تقول دم غزلان
لو حلالات يالكاسه                                    شايا من الهند سيلاني
كما يستعرض المؤلف أنواع الهجيني التراثي المحفوظ في الذاكرة الجمعية وهو مجهول المؤلف، والهجيني الحديث الذي نظم في عهد القراءة والكتابة وأتيح له أن يدون. كما يتناول عرار شاعر الأردن الشهير، منتهياً بمناقشة بعض التعريفات الخاصة بهذا الفن وضبط مصطلحاته. أما السامر فيعرفها المؤلف بأنها الرقصة الرئيسية التي تسرق الوقت من ساعات الليل الرتيبة في البادية والريف، كما يطلق الإسم على لون من الغناء الشعبي ترافقه رقصة لمجموعة من الرجال تقف صفاً واحداً مستقيماً أو يشكلون نصف دائرة، ويطلق على الغناء اسم البدع والرقصة سحجة او رزعة. ثم يصف المؤلف المراحل الثلاث لرقصة السامر وما يصاحبها من شعر مغنى مستعرضاً دخول الحاشي (المرأة المشاركة في الرقص أمام الرجال) والتي قد تتخفى أو يحل محلها رجل متخف بلباس امرأة. وهي احتفالية تقوم على الحركة والموسيقى والشعر والتصفيق.. أما النص الشعري فهو ذو قالب لحني على وزن واحد لكل الألحان تختلف مثلها مثل الهجيني تبعاً لدمج أو مد الحروف. ومعظم أغاني السامر قصيرة تتألف من بيتين في أغلب الحالات وأحياناً يغنى بيت واحد ويرددها الشاعر الذي يعرف بالبّداع، والأشعار القصيرة تكون وافية المعنى تشفي غليل البّداع فيما يريد أن يوصله للمحبوب من عشق أو وصف أو فخر:
يا ابنيه ملا انت ابنيه                                  لو فيكي من الطول شوية
لحطك بخريج الذلول                                  والقي فيك الدوية
ثم ينتقل المؤلف للون آخر من الشعر النبطي الراقص وهو «العرضه» إحدى الرقصات الحربية التي يصاحبها السيف ولها مراسم معروفة في الأردن والخليج العربي، وارتبط بها ما يعرف بأغاني العرضة، وللعرضة ثلاثة أقسام هي: عرضة الجيش- عرضة الخيل- العرضة العامة، ويحاول المؤلف في هذا الجزء أن يوضح الفرق بين العرضة والجوفية حيث يقع الكثير في الخلط بينهما:
ديرتي بالشرف والعز مبنية                   صرحها في سنام المجد بانيته
وادي في القضا يسمى باهليه                  من الأوايل من العدوان حاميته
أما الجوفية فالاسم يدل على استعمالها الواسع بمنطقة الجوف بالأردن، وتختلف عن العرضة في وزنها ولحنها ورقصتها، على حين يشير المؤلف إلى أن الشعر النبطي المسمى بـ (أبو رشيده) لايُعرف أصل تسميته.
ويختتم المؤلف كتابه بفصل حول الأهازيج والحداء، والأهزوجة هي نشيد شعبي في لغة العامة ينشده الناس في مناسبات متنوعة كالحروب، والاستعراض، الاستقبال، التوديع..إلخ. ومن أبرز خصائص الأهزوجة التلقائية والوضوح وقد كان للأهزوجة دور كبير في تعميق المفاهيم الوطنية، وقد تكون الأهزوجة قصيرة وهي الأكثر شيوعاً أو طويلة ذات مقدمة تمهيدية، ومن أمثلة الأهازيج النسائية التي قيلت لتشجيع المحاربين وذكرها الدوسري في كتابه أهزوجة الشريفة عمشاء بنت ناصر بن غالب الشريف تحرض على قتل مصلح البعاع الذي قتل عمها:
من يقطع الفرجة على البعاع                          يصــير للشـيخة حليل
يا ريت ما رمحه يجي منعاج                         يقلط إلى هاب الذليل
أما اللون الأخير من الشعر النبطي الذي عرض له المؤلف فهو «الحدادي» والحداء هو غناء، والغناء الذي يغنيه الحادي قد يكون من ألوان مختلفة، ومعظم الحداء من ألوان الهزج وقد فصل مصطفى الخشمان في العلاقة بين الأهازيج والحداء موضحاً بالعديد من الأمثلة لينتهي ببعض النتائج المهمة التي توصل لها في خلاصة دراسته.

ألفاظ وأشعار كركيه
وفي مجال الأدب الشعبي والاحتفاء بالشعر الشعبي الأردني صدر عام 2009 كتاب ألفاظ وأشعار كركيه لفراس دميثان المجالي عن إصدارات وزارة الثقافة 2009، والكتاب نشر في إطار الكرك مدينة الثقافة الأردنية، ويحوي 219 صفحة مكون من مقدمة وستة فصول اشتملت تصنيفات متعددة للألفاظ الشعبية والأشعار النبطية المتداولة في مدينة الكرك حاضرة الصحراء كما يصفها المؤلف، والتي شهدت تغيرات في حياتها ومرت عليها أحداث جسام مما زاد في شهرتها وسمعتها.
احتوى الفصل الأول من الكتاب على الألفاظ المرتبطة بالعشق الذي يسبق الخطبة، والزواج، والحبل والولادة. وقد قدم المؤلف أمام كل لفظ معناه في إطاره الثقافي، ومن الألفاظ التي وردت في هذا الباب: مرعية: فتاة على حساب أحد أو مخطوبة- طيار: غير مقيد أو غير مرتبط بفتاة- الحلية: ذبح شاة بعد زفاف العروسين في الليل- لاقطة: بداية الحمل. أما الفصل الثاني فقد اشتمل ألفاظ اللباس، والحلي والجواهر، وألفاظ الوصف، والمدح، والذم والسب. ومنها: ضحاك الحجاج: من يُسر لرؤية الضيوف- المخرفن: كثير الكلام. أما الفصل الثالث فقد اشتمل على ألفاظ متصلة بموضوعات متعددة مثل: الألفاظ التي تتعلق بالمسكن الشعبي، وبيت الشعر، والقهوة، والطعام، والماء، والنار، والصيد، والأسلحة، والفلك، والقضاء. وخلال هذا الفصل نتعرف على الكثير من الألفاظ، فالقنطرة هي ما يرتكز عليها السقف، والحميل هي مخلفات القهوة السابقة في الدلة، والمليحية عبارة عن لبن مع شراب اللحم، والنبوت هو العصا الكبيرة، والمدمي هو من ارتكب جريمة قتل. ثم ينتقل المؤلف في الباب الرابع لرصد ألفاظ الزراعة، والحليب ومشتقاته، ونباتات البقل، وأشجار الطب، والمحاصيل الحقلية، والنباتات البرية. ومن ثم أدخلنا المجالي في عالم جديد من الألفاظ ذات الدلالات المحلية لنعرف أن الكابوسة هي قطعة خشبية يتكئ عليها الحراث أثناء العمل، والحثيمة هي حليب اللبا، واللبا حليب الشاة، والقطف نبات يستعمل للحطب. ثم خصص الباب الخامس لشرح الألفاظ المرتبطة بالحيوانات، مثل الألفاظ التي تتعلق بحيوانات العمل، والمواشي، والكلاب، والدواجن، والخيل. ومن ثم نجد أمن الخلوج هي الناقة الوالدة حديثاً، والعوسية هي نعجة وجهها بني وليتها كبيرة، والمقاقاة هو صوت الديك، والمحسة هي مشط حديدي دقيق لتنظيف الفرس. أما الفصل السادس والأخير من هذا القسم من الكتاب فقد خصصه المؤلف لألفاظ الحرف والمهن، ومايتعلق بالغزل والنسيج، والخياطة، والمقاييس والأوزان، والعقود. ومن خلاله نتعرف على اللاحوق وهو مساعد راعي الغنم، والكرداش وهي أداة لتنعيم الصوف والشعر، والحفنة هي ما يملأ الكف، والقطمة نصف الحفنة. وإلى هنا ينتهي حديث المؤلف حول الألفاظ الكركية والتي نقدر له حرصه على جمعها وتوثيقها، غير أن تحفظنا الوحيد على هذا القسم هو أن المؤلف لم يرتب الألفاظ ترتيباً هجائياً حتى ييسر على القارئ الوصول لكل لفظة بسهولة، وكان من الممكن أن يصنف هذا القسم تصنيفاً هجائياً موحداً حيث أن التصنيفات الفرعية اشتملت على مجموعات صغيرة من الألفاظ وصل بعضها إلى أقل من عشرة ألفاظ.أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه المؤلف لعرض نماذج من الشعر النبطي الكركي: الشروقي- الهجيني- الحداء. لنكتشف خلاله أن مؤلفنا هو واحد من شعراء النبط، فبدأ بعرض  لبعض مبدعي الشعر النبطي مثل غنام المزارقة البطوش، وسعود المجالي، وعبدالله العكشة، وسالم أبو الكباير، ومصطفى السكران، ودميثان رفيف المجالي، ويوسف ربيقان المجالي، ودليوان المجالي،  وخازر موسى المجالي، وفراس دميثان المجالي(المؤلف)، ومحمد فناطل الحجايا، كما خصص المؤلف قسماً مستقلاً لنماذج من شعر الهجيني الخاص بعائلته وأقربائه مثل معالي صالح المجالي، ودميثان المجالي، وحابس المجالي، وعصر رفيقان. واختتم المؤلف كتابه ببعض الأبيات من قصيدة له من شعر الهجيني:
دنيت حبري مع الأوراق                              وأنظم اشعاراً للهجيني
سر يا قلم وانصح العشاق
اللي بهواهم غشيمين
هذا الهوى ماكر بواق                         يخدع القلوب المحبين
وش فود عشقاً بلا ميثاق                              بالعمر مايعيش يومين

معجم التراث والألفاظ الشعبية
وينقلنا الملف الأردني لنشاط علمي جديد في مجال المعاجم والموسوعات حيث صدر عام 2012 معجم التراث والألفاظ الشعبية، لأحمد سليم الزول عن وزارة الثقافة بمناسبة اختيار مادبا مدينة الثقافة الأردنية.

ومن الوهلة الأولى نجدنا أمام عمل متخصص ومحترف في المجال، له أطر منهجية محددة، حيث أعلن المؤلف عن أنه صنف المعجم موضوعياً، ورتب كل موضوع هجائياً، ثم وثق المصادر التي اعتمد عليها سواء المكتبية أو الميدانية، وإضافة ألفاظ توضيحية لدلالة الكلمة ومعناها، وجمع بعض الألفاظ تحت مسمى يجمعها، فضلاً عن تزويد المعجم بصور ورسومات توضيحية. كما قدم ثبتا بالألفاظ الشعبية ومقابلها الفصيح، فضلاً عن أسماء الإشارة والضمائر وأحرف العطف والجر. وقد صنف المؤلف معجمه لإحدى وعشرين فصلاً على النحو التالي:
1) الإنسان والصفات المتعلقة به.
2) الصفات الخُلقية والخلقية وألفاظ الطلب والمعاملات والإشارة.
3) العبادات والمعتقدات والأساطير.
4) العادات والتقاليد والألفاظ المتعلقة بالزواج والأسرة.
5) العلاقات الاجتماعية وتقاليد التكافل الاجتماعي.
6) اللباس وصفاته وأنواعه والألفاظ المرتبطة به.
7) البيوت ومحتوياتها ومكونات وأجزاء بيت الشعر والبيت الريفي والحضري.
8) أجزاء القرية والمضارب والبساتين وصفات الأرض وما يتعلّق بها.
9) الألعاب الشعبية والألفاظ والمصطلحات والمسميات المتعلقة بها.
10) القضاء العشائري والألفاظ المتعلقة به.
11) القهوة في التراث الشعبي.
12) أدوات الطعام والشراب والألفاظ والمصطلحات  المتعلقة بهما.
13) المأكولات الشعبية  الحليب ومشتقاته والألفاظ والمصطلحات والأدوات المتعلقة بها.
14) التدفئة والإضاءة وأدواتهما.
15) الطب الشعبي وأنواع الأمراض والألفاظ والأدوات المتعلقة بهما.
16) الفنون والأغاني والأهازيج الشعبية والألفاظ والمصطلحات والأدوات المتعلقة بها.
17) الحيوانات والألفاظ والمصطلحات والأدوات المتعلقة بها.
18) الفصول الأربعة ومواسم الحصاد والنباتات ومايتعلق بها من ألفاظ ومصطلحات وأدوات.
19) وسائل النقل والتحميل.
20) العملة والنقود والأصوات والألوان.
21) معجم الألفاظ التركية التي مازال بعضها مستعملاً في الأوساط الشعبية.
وعلى هذا النحو نجدنا أمام مئات الألفاظ الشعبية التي تعكس الثقافة الأردنية، وليس هناك حدود لعدد الكلمات التي تشرح اللفظة، فمثلاً قد يشرح المؤلف كلمة «صدّارات» بأنهن النساء اللواتي أحضرن الماء في القرب أو الراويات، أما كلمة «وَنَس» فهي نوع من أنواع الأرواح، أو الجن الذي يظهر في بعض الأماكن المهجورة، أو الخالية من الناس، أو في الأماكن التي قتل فيها أحد الأشخاص باسمه.. ويستطرد المؤلف في ذكر هيئة هذا الجن والفرق بينه وبين «المكتول» وهو نوع آخر، ووقت ظهوره وعلاقته بالإنسان..إلخ. وسنجد في المعجم العديد من الألفاظ التي فصل المؤلف في شرحها، كحديثه عن لباس المرأة، وجهاز العروس، والقضاء البدوي. وقد أشار المؤلف في مقدمته أن المعجم يحاول أن يجمع في طبعته الأولى بعض الألفاظ والمعتقدات الشعبية التي تعارفت عليها معظم المجتمعات العربية، ومن ثم نجد بعض الألفاظ التي قد تكون خارج السياق الأردني، مثل «عيد شم النسيم» الذي يصفه المؤلف بأنه احتفالات يقوم بها أهل مصر في فصل الربيع، وهي منقولة عن الفرس حيث كانوا يحتفلون بعيد النيروز. وعند تصفحنا للمعجم سنجد بعض المواد عرضها المؤلف من خلال بعض النماذج فقط دون وصف مفصل لطريقة أدائها، ومن ذلك ما أورده حول أغاني السامر، التي وصفها المؤلف بأنها الأغاني التي تقام ليلة العرس، وتؤدى بطريقة جماعية، ثم استطرد في تسجيل عشرات الأبيات التي تٌغنى في هذا السياق، والأمر نفسه عندما عرض لأغاني الطهور. أما أغاني الشوباش فقد اقتصر تعريفها فقط على أنها الأغاني التي تنتهي بلفظ (واو). ورغم هذا المنهج الذي التزمه المؤلف في التصنيف والتوثيق، فإننا نجد بعض الفصول الفرعية التي نتصور أنها تحتاج لا ستكمال، مثل الجزء الخاص بالآلات الموسيقية الذي اقتصر فقط على آلات: جهاز الحاكي (الفونوغراف)- المزمار- اليرغول. يبقى الإشارة أن المؤلف حرص على توثيق مادته المرجعية وهناك بعض المراجع التي اعتمد عليها بشكل أساسي منها: قرية محي للجنة إحياء التراث، والطفل في الحياة الشعبية الأردنية لنايف النوايسة، والقضاء العشائري لمحمد أبو حسان، ودراسات في عادات وتقاليد المجتمع الأردني لسليمان عبيدات. وقد أنهى المؤلف موسوعته بمجموعة صور للعناصر المادية التي وردت بالموسوعة مثل المباني الطينية، والجرن، والمهباش، وفناجين القهوة، والأدوات المنزلية، والحلي، وأدوات الزراعة..إلخ.
التنوع الثقافي في الأردن
هذا الكتاب يأتي في إطار نشاط وزارة الثقافة الأردنية في توثيق الذاكرة الثقافية في المملكة، وهو بعنوان « التنوع الثقافي في الأردن: النسيج الاجتماعي، والتشريعات، والفعاليات الثقافية، تحرير حكمت النوايسة، وقد صدرت طبعته الأولى عن مديرية التراث بالوزارة عام 2012 في 178 صفحة.

والكتاب يحوي مجموعة دراسات متنوعة شارك فيها نخبة من المتخصصين في رصد آفاق التنوع الثقافي في الأردن، وقد امتزجت فيه التجارب المحلية والعربية في أجواء من القبول الرحب كما يشير محرر الكتاب في المقدمة. وقد احتوى الكتاب خمسة موضوعات أساسية بدأت بدراسة احمد راشد حول التشريعات والاتفاقيات الدولية والمشاريع الثقافية. تناول فيها النصوص الدستورية الضامنة لحرية التعبير الثقافي في الأردن، وتجلياتها من خلال الواقع العملي، مع الإشارة إلى دور وزارة الثقافة في تعزيز أشكال التعبير الثقافي في المملكة. أما الدراسة الثانية فهي لمفلح العدواني بعنوان «التنوع الثقافي والنسيج الاجتماعي في الأردن» تناول مكونات المجتمع الأردني الإثنية والدينية والاجتماعية، وصورة القبول التي تسير عليها الحياة في الأردن، معززة بالفعاليات، والمؤسسات المعبرة عن هذا القبول. وفي البحث الثالث تناول غسان طنش نموذج الجمعيات والهيئات الثقافية التطوعية المسجلة بموجب قانون الجمعيات النافذ، حيث أبرز تنوع الهيئات والمؤسسات الثقافية الأردنية، وتوزعها الكمي والنوعي، وتمثيلها لشرائح المجتمع الأردني كافة، دون تميز أو تحيز، وانتشارها في بادية الأردن وقراه ومدنه، وفق إحصائيات دقيقة وحديثة، تعبر عن هذه الهيئات والمؤسسات. كما تناول عبد الكريم العمري موضوع الإعلام وتنوع أشكال التعبير الثقافي في المملكة الأردنية الهاشمية: الأعمال التلفزيونية نموذجاً، حيث تناول البرامج والأعمال التليفزيونية التي ترصد الفعاليات الثقافية، وتوثق للعادات والتقاليد والتعابير الثقافية في المجتمع الأردني. ويختتم الكتاب بدراسة أحمد الطراونة حول الفعاليات الثقافية من خلال الإعلام المقروء: جريدة الرأي نموذجاً، حيث رصد الفعاليات الثقافية المعبرة عن هذا التنوع والأخبار الصحفية التي غطتها في الفترة من 2007 إلى 2010 وعكس البحث ثراء الحراك الثقافي الأردني وغناه بالتنوع الثقافي والحضاري للفعاليات الثقافية خلال هذه الفترة. ويختم حكمة النوايسة مقدمة هذا الكتاب بقوله: هذا جهد نفتح فيه الأبواب لتوثيق الذاكرة الثقافية الأردنية، وإبراز الوجه الثقافي المشرق في الثقافة الوطنية الأردنية، بما يؤهلها أن تكون ثقافة التنوع الاحترام والقبول، وأن تشكل نموذجاً حقيقياً للثقافة التي تحترم وتعزز تنوع أشكال التعبير الثقافي، وتفتح المجال أمام جميع مكونات المجتمع لتعبر عن ذاتها وخياراتها الاجتماعية والثقافية. ونحن إذ نتفق مع المحرر في تقييمه لهذه الدراسات المهمة فإننا نأمل أن يقدم الجزء التالي من مشروعه تطبيقات المملكة الأردنية في إطار اتفاقية اليونسكو حول حماية وتعزيز تنوع اشكال التعبير الثقافي، والتي وقعت عليها الأردن عام 2007. حيث أن الدراسات الخمس التي نشرت بهذا الكتاب تعد بحق أساساً يمكن البناء عليه لتطبيق هذه الاتفاقية.

دراسات وتجارب في التاريخ الشفوي
صدر في 2011 عن مركز الأردن الجديد للدراسات، كتاب بعنوان: التاريخ الشفوي؛ دراسات وتجارب، إشراف وتقديم هاني الحوراني. والكتاب يقع في 206 صفحة يضم مختارات من المساهمات التي قدمت في المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ الأردن الاجتماعي الذي عُقد في 16 و17 أغسطس 2005، بمشاركة باحثين وأكاديميين من الأردن وفلسطين والولايات المتحدة الأميريكية، وكرس المؤتمر أعماله للتعريف بالتاريخ الشفوي وأبعاده المختلفة، النظرية والعملية، وكذلك بالتجارب العربية، ولاسيما الفلسطينية في مجال تدوين وحفظ الروايات الشفوية، وإلي جانب ذلك فقد تضمن المؤتمر تجارب وشهادات من الأردن للعديد من المؤرخين والصحفيين والأنثروبولوجيين والأدباء الذين لجأوا إلي مصادر شفوية في أعمالهم واستخدام تقنيات التاريخ الشفوي،
ويضم الكتاب أيضاً مختارات من أعمال أول دورة تدريبية تقام في الأردن حول « تقنيات ومهارات التاريخ الشفوي»، والتي عقدت ما بين 3 و7 شباط/ فبراير2006، بمشاركة واسعة من المتدربين والمتدربات الذين يتوزع إنتماؤهم بين مؤسسات متنوعة، أكاديمية وإعلامية ونسائية وأهلية، وقد تركز التدريب علي توثيق وتدوين تاريخ الحركة النسائية في الأردن والشخصيات النسوية القيادية. الكتاب مقسم لبابين يبدأ بمقدمة مختصرة ودقيقة لهاني الحوراني بعنوان: لماذا التاريخ الشفوي الآن؟!.أما الباب الأول فيبدأ بمساهمتين للخبير الأميركي المعروف توماس ركس، الأولى بعنوان: التاريخ الشفوي. ما هو؟، والثانية يتبنى فيها مقولة جون إتش. آرنولد: التاريخ هو عملية وجدل ويتكون من قصص حقيقية حول الماضي. يتلوها دراسة بعنوان الأبعاد النظرية والعملية لتطبيقات التاريخ الشفوي لسونيا النمر. ثم دراسة صالح عبد الجواد حول خصوصية الحالة الفلسطينية: الضرورة والمشاكل والمصداقية. كما يتعرض رياض شاهين للصعوبات التي تواجه تطبيقات التاريخ الشفوي وطرق تجاوزها، وينتقل الكتاب لدراسة قضية أثارت جدلاً واسعاً في الماضي وتأخذ نفس الطابع الجدلي الآن، وهي المنظور النسوي للتاريخ الشفوي بين النظرية والتطبيق والذي عالجته فيحاء عبد الهادي. أما عادل يحيى فقد اختتم هذا الباب بدراسة حول منهج وتقنيات البحث في التاريخ الشفوي. أما الباب الثاني، فقد احتوى على العديد من الشهادات والتجارب المحلية، بدأت بشهادة المرحوم سليمان الموسي بعنوان «تجربتي الشخصية في توظيف تقنيات التاريخ الشفوي»، وشهادة روان وديما الضامن حول التاريخ كما يراه الأطفال: ملاحظات مستقاة من دراسات ميدانية. ثم شهادة فاروق جرار حول تجربة مراكز الدراسات والأبحاث في مجال التوثيق التاريخي. أما محمد خريسات فقد سجل في شهادته موقع تقنيات التاريخ الشفهي في مجال توثيق التاريخ في الأردن. على حين تناول عبد العزيز محمود في شهادته مكانة التحقيق الميداني في دراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي، كما سجلت ملك التل تجربتها في كتابة التاريخ الشفاهي، وعنون محمود الذيودي شهادته باسم «دراما من دراما»، وسجل كايد هاشم تجربته حول تطبيقات التاريخ الشفهي في كتابة التراجم الأردنية. واختتمت سلسلة التجارب بتجربة هاني العمد حول تقنيات التاريخ الشفهي.
https://alrai.com/article/115847/الرأي الثقافي/ندوة-لمركز-الأردن-الجديد-تناقش-التاريخ-الشفوي-ودراسات-المرأة

تاريخ التأريخ الشفويّ..تطور وتاريخ المفهوم
آخر تحديث 21 أبريل , 2022
مهام التاريخ الشفويّ
يُعدّ التاريخ الشفويّ مكمّلاً للتاريخ المكتوب بما يحمله من تصحيحات مباشرة لأحداث تحتاج إلى مصداقيّة في روايتها، وبما يفسح من مجال لاستكمال الرؤية المعرفية التاريخيّة من خلال ما يضيفه من شهادات مهمَّشة أو منسيّة، وعبر توسيعه لحقول البحث التاريخيّ، ليشمل طبقات اجتماعيّة مختلفة ومواضيع كانت تطرح فقط في أطر العلوم الأخرى. بالمقابل، للتاريخ الشفويّ عثراته أيضاً، إذ لا بدّ من التأكّد من أنّ رواية الشاهد أو المشارك في الحدث الذي يروي أحداثه، قد نُقلَت بأمانة أو أنه لم يخطئ في بعض النقاط أو الملاحظات. ومن هنا أهميّة التاريخ الشفويّ بتكامله مع التاريخ النصيّ. لكن هل يمكن فعلاً نقل الرواية أو الحدث دون تشويههما، أي دون نقلهما في صيغة مشخصنة أو من وجهة نظر الراوي على الأقل؟ هنا تكمن إشكاليّة التاريخ الشفويّ تحديداً.
هذه الإشكاليّة طرحها مفكّرون وفلاسفة كثيرون سابقاً، وخاصة كانط، إذ أشار إلى أن الشاهد يميل دائماً إلى إخضاع روايته للماضي وفق ذوقه أو أفكاره الشخصيّة. من هنا نشأت الفكرة المبدعة التي اقترحها غي تويلييهGuy Thuillier منذ العام 1976 والتي تقول باستبدال مفهوم “التاريخ الشفويّ” المستخدم في الولايات المتحدة منذ بدء العمل به في جامعتي شيكاغو وكولومبيا، بمفهوم “الأرشيف الشفويّ”، وذلك للتخفيف من حدة هذه الإشكالية في تحريف التاريخ المرويّ عبر رواته، والارتكاز بالتالي على الوثيقة التي يمكن العمل عليها من الباحثين لتوطين الخلاصة التاريخيّة المستقاة منها، اعتماداً على الدراسة المقارنة لها، وبالتالي توفير الوسائل لتناول أكثر موضوعيّة للماضي. وقد استلهمت هذه الفكرة ووضعت لها الإطار النظري والتطبيقي دومينيك شنابر D. Schnapper، في إطار الهيئة الفرنسية للتاريخ والأمن المجتمعيComité d’histoire de la Sécurité sociale. عملت بعد ذلك فلورانس ديكامبF. Descamps وغيرها على بلورة وتطوير هذه الأعمال. تمثّل هذه المبادئ اليوم معلماً أساسياً لتطوير الأبحاث والمناهج في التوثيق الشفويّ.
حول تاريخ التأريخ الشفويّ
كان التأريخ المدوَّن في الحضارات القديمة يعتمد على مصادر متنوعة من المعلومات، ولم يكن النص المكتوب يتفوق فيها على المصادر الأخرى. فالمؤرّخ هيرودوت (484 ـ 425 ق م) اعتمد على شهادات شفويّة وشهود عيان لكتابة تاريخ الحروب الميديّة. أما ثوسيديد (470 ـ 395 ق م)، فقد طوّر منهج التأريخ بالاعتماد على الرواية الشفويّة في مقدمة كتابه حول حروب البيلوبونيز. بعد ثلاثة قرون، أعلن المؤرخ الروماني بوليب (208 ـ 126 ق م) عن تفوّق الشهادة المباشرة على المصادر النصيّة وضرورة قيام المؤرّخ ببحث “ميداني”. وقد تعمّم هذا المنهج طيلة قرون تالية مع مؤرّخي روما الجمهوريّة ثم الإمبراطوريّة، حتى نهاية القرن الرابع الميلادي تقريباً، إذ اعتمد المؤرّخون على شهادات معاصريهم، وقد شغفوا بكتابة التاريخ المباشر للفترة التي عاشوها.
في العصور الأوروبية الوسطى، تأثّرت الكتابات التاريخيّة بالبعد المسيحيّ من جهة، والتوجّهات الملكية لبناء الدول والإمارات الأوروبيّة من جهة أخرى. أدّى ذلك إلى تراجع التأريخ، فأصبح يُستخدَم في اللاهوت والحُكْم، وكان لا بدّ من إعادة اكتشاف الفلسفة الإنسانيّة، في القرن السادس عشر، ليبدأ “التاريخ” رحلته نحو المنهجيّة العلميّة.
أما تطوّر البحث التاريخي في الحضارة العربيّة فقد سار وفق مسارين، الأول، تَمثّلَ النمط التأريخي اليوناني / الروماني السابق، والآخر اعتمد بشكل أساسي على النقل عن السابقين، وقد طغت هذه الطريقة الأخيرة على الأولى لما في النمط الثقافي العربي من خصوصيّة الثقة أو تفضيل شهود العيان على المصادر المكتوبة. وهذا ما تؤكّده المقولة المأثورة: “كان الشعر علم قومٍ لم يكن لهم علمٌ أصحّ منه”. فقد كان الشعر ديواناً شفوياً للعرب يسجّل مآثرهم وأخبارهم وأيامهم وأمثالهم ومثالبهم. واستمرّت هذه الخصوصيّة للتوثيق بعد ظهور الإسلام من خلال تدوين القرآن الكريم أولاً ثم تدوين أحاديث النبي الكريم ثانياً وما تضمنه هذا التدوين من عمليات الجمع والتحليل والتحقيق والمقارنة، الأمر الذي عكس تطوّراً في الوعي بأهميّة التراث الشفوي وحفظه وتدوينه. لتصبح الرواية الشفوية أحد مصادر التوثيق التاريخي عند المؤرّخين العرب والمسلمين في نقلهم لمعارفهم وحياتهم إلى من يليهم من أجيال، وتشهد على ذلك سلسلة “العنعنات” أو الأسانيد الطويلة التي يسردها المؤرّخ قبل كتابة الخبر الذي نقله عنهم. يشترك في هذا المقام عدد كبير من المؤرّخين المسلمين، الذين اعتمدوا اعتماداً كبيراً على التأريخ الشفهي؛ فدوّنوا معظم كتاباتهم من أفواه الناس والرواة المعاصرين للاحداث، ونذكر منهم على سبيل المثال، كتّاب السير، والمعارك الإسلامية كالبلاذري، ومعاصري الحروب الصليبية كإبن منقذ في مذكّراته المسمّاة “الاعتبار”، وغالبية كتّاب الرحلات كالمقدسي، والإدريسي، وابن بطوطة، وكتّاب التاريخ العام، كالطبري، والمقريزي في سلوكه، وابن تغري بردي في كتابه “النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة”، وما دوّنه محمد ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، والأمير حيدر الشهابي في كتابه “الغرر الحسان في تواريخ أهل الزمان” ،المعروف باسم “تاريخ الأمير حيدر الشهابي”، وطنوس الشدياق في كتابه “أخبار الأعيان في جبل لبنان”، وشيخ المؤرّخين المصريين عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار في الوقائع والأخبار” المعروف باسم “تاريخ الجبرتي”[1] … الخ.
مطلع عصر النهضة
لقد فضّل بحّاثة القرن السابع عشر في أوروبا النصوص الأصليّة على الروايات العجائبيّة أو الحكايات المرويّة. مع ذلك، لم تستبعد طرائق البحث المطبّقة على النصوص القديمة الشهادات الشفويّة والمرويّات استبعاداً كاملاً. بالمقابل، رفض المؤرخون في تلك الفترة التقليد الشفويّ الذي اعتمد على النقل عن مصادر سابقة غير مؤكَّدة أو غير موثَّقة بالمقارنة أو بالإثبات التاريخيّ، والتي تكون صياغتُها على نحو “يقال إنّ” أو “لقد رُوي دائماً أن”… إلخ، فهو تقليد لم يُقبل في دراسات الباحثين بل استُهدِف بالنقد مع كلّ ما رافقه من تضليل.
ترافقت حركة إخضاع التاريخ هذه للفكر والتوثيق النصيّ والبحثيّ مع الحركة العلمانية التي تمثّلت في مأسَسَة الدولة، وهو ما ترافق مع إنشاء مؤسّسات بحثيّة وعلميّة وأكاديميّة وأرشيفيّة. كانت كافة هذه المؤسّسات الخاصة تُعنى في آن واحد بالحقوق والذاكرة والبحث التاريخيّ وتعمل في خدمة البلاط، لإبراز عظمته وتأسيس سلطة الدولة.
في مطلع القرن التاسع عشر، بدأت تظهر، كما في فرنسا وقبلها في إنكلترا، مراكز الأرشيف الوطني. وهكذا، ولدت مهنة جديدة هي مهنة المؤرشف التي تتأسّس على تأهيل علميّ أكاديميّ. مع ذلك، استمرّ المؤرّخون الرومنطيقيون المتأثّرون بالثورة الفرنسيّة بتقصّي شهادات الشهود العيان من معاصريهم. لكن لم يطل الأمر بهذه النزعة التاريخيّة الرومانسيّة، فقد عادت المدرسة الفرنسية التاريخيّة لتؤسّس هويّتها العلميّة على مناهج التاريخ التقليديّة، التي تعود إلى الإرث البحثيّ في التاريخ من القرن الثامن عشر. فتمّ التركيز من جديد على النصّ، فالنصّ هو بداية التأريخ العلميّ والمنهجيّ ونهايته. مع ذلك، لم يستطع مؤرّخو هذه المدرسة أن يرفضوا تماماً اللجوء إلى شهود العيان، إنّما حدث هذا على هامش البحث التاريخيّ. وقد ترافق هذا التهميش بنقد لطرائق نقل المعلومات الشفويّة ولمحتوى التقليد الشفويّ.
هذا كان حال التقليد الشفويّ في مطلع القرن العشرين وخلال العقود الأولى منه. لكن النقد الموجَّه لآلياته سيزول ويتلاشى بعد العام 1945، مع اختراع الحاكي والأشرطة المغنطيسيّة التي ستسمح بـ “تثبيت” الشهادات الشفويّة، مما يجعلها دائمة وقابلة للنقل والدراسة والتحقّق. وسرعان ما بدأت تتطوّر مواضيع هامة، بالنسبة للتوثيق الشفويّ، تتعلّق بالسرّية والخصوصيّة وغير ذلك، في إطار توصيف الموضوع التاريخيّ، ما فتح الطريق لإعادة دمج المصادر الشفويّة في المصادر التاريخيّة لتشكيل علم تاريخ جديد.
نشأة “التاريخ الشفويّ” في أمريكا وانتشاره في أوروبا خلال القرن العشرين
بدأت، منذ العام 1860، أعمال جمع الشهادات الشفويّة على مستوى واسع، على الساحل الكاليفورني، من أجل ردم فجوة غياب المصادر المكتوبة والأرشيفات الإداريّة. ترافقت هذه الحملة بجمع منهجيّ للوثائق النصيّة من كل نوع، بما في ذلك أرشيفات العائلات والشركات… إلخ، وكذلك بحملة نسخ للوثائق التاريخيّة التي لم يكن بالإمكان شراؤها أو جمعها. ويُعدّ ليمان كوبلاند درابر أبا التوثيق الشفويّ الأمريكي، وقد جمع، في العام 1840، ذكريات الجنود السابقين في الثورة الأمريكية وأوائل مستكشفي الغرب الأمريكي، وهي مواد تركها للجمعيّة التاريخيّة في ويسكنسن.
سرعان ما انتظمت هذه البدايات للتوثيق الشفويّ في أمريكا وفق محورين، بدأ أحدهما مبكراً في مطلع القرن العشرين، وتأخّر الثاني حتى ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وهو ما أنتج “مدرستين” في الفكر والممارسة، هما أصل “التاريخ الشفويّ” في الولايات المتّحدة الأمريكية. هاتان المدرستان هما مدرسة شيكاغو ومدرسة جامعة كولومبيا.
طوّرت مدرسة شيكاغو نموذجاً للبحث التاريخيّ الميداني، يرتكز على المقابلات والروايات التي تحكي تاريخ حياة. ارتكزت منهجية روبرت بارك من هذه المدرسة على قاعدتين: أولاً، المراقبة المباشرة وجمع المعطيات مباشرة، ما أدّى إلى تشكيل ملف وثائقي مفصّل ومرتبط بيوميّات البحث؛ وثانياً استخدام طريقة السيرة الذاتية، وسيلةً لمعرفة معمَّقة للواقع الاجتماعي قبل القيام بالتحليل والتفسير. وكان ذلك يعني الخروج من المكتبات لمواجهة العالم الحقيقي ودراسة تنوّع المجتمع وديناميكيّته. وفي مدرسة شيكاغو أيضاً، ميّز وليام توماس وظيفتين في استخدام طريقة السير الذاتيّة: الجمع الموسَّع للعديد من الروايات لرسم محيط وتفاصيل مجموعة من الأشخاص أو السكّان، والسير الذاتيّة المكثّفة والمعمَّقة والمفصّلة والمتعارضة أو المتقاطعة.
أما قسم التوثيق الشفويّ في جامعة كولومبيا فأسسه آلان نيفينز Allan Nivensالذي أدرك أهمية “إنشاء منظّمة تبذل جهوداً منهجية للحصول على توثيق شفويّ أو كتابي من الأمريكيين الأحياء، الذين كانوا شهوداً على مرحلة تبيّن مساهمتهم في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية”، وهذا ما يسدّ الفجوات الكثيرة في النصوص والمصادر، وهذا ما أصبح فعلاً قسم التاريخ الشفويّ في جامعة كولومبيا الذي تم إنشاؤه في العام 1948 بإدارة آلان نيفينز ولويس ستار.
بدأت أولى التسجيلات في العام 1949 مع اختراع أجهزة الحاكي التسجيليّة. وكانت عبارة عن سير ذاتيّة، وتمّ تفريغ هذه السير ونسخها وكتابتها بشكل منهجيّ. شمل برنامج المقابلات النخب السياسيّة والثقافيّة، إضافة إلى نخبة الاقتصاديّين والعسكريّين والعلماء. وفي العام 1975 بلغ عدد صفحات المقابلات في قسم التاريخ الشفويّ في جامعة كولومبيا 425000 صفحة، تفريغاً من تسجيلات لـ 3500 شاهد ونحو 15000 ساعة تسجيل. وهكذا، أصبحت كولومبيا نموذجاً لجامعات أخرى منذ الخمسينيّات والستينيّات مثل جامعات تكساس وبركلي ولوس أنجلس. في العام 1954، كان عدد مراكز التاريخ الشفويّ في أمريكا أربعة مراكز، وأصبح 316 مركزاً في العام 1973، وتجاوز الألف في العام 1977. نشرت المراكز الأساسية، بدءاً من الستينيّات، تقاريرها عن نشاطاتها وفهارسها (كولومبيا، بركلي…) كما تمّ نشر أوّل دليل منهجي للتوثيق الشفويّ في العام 1966.
ما يميّز مدرسة كولومبيا عن مدرسة شيكاغو هو الاهتمام بإنشاء أرشيف بالدرجة الأولى، وبوضع قواعد صارمة جداً على عملية التفريغ والنقل، ومعايير دقيقة لتسمية المصدر النصيّ، الناجم عن المصدر الشفويّ، بالمصدر العلمي. كما تميّزت بتصنيف الوثيقة وفهرستها وإكمالها بوثائق نصيّة أو تصويريّة، وصولاً إلى إنتاج ملفّ توثيق شفويّ يوفّر مادّة موثَّقة للمؤرّخين في المستقبل.
عودة إلى أوروبا
عاد الاهتمام بالتاريخ الشفويّ إلى أوروبا بعد النتائج الهامة التي تحقّقت في أمريكا، خاصة مع التطوّرات التي حدثت بعد الحرب العالميّة الثانية. ونستطيع متابعة تطوّر التأريخ الشفويّ في إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، وخاصة في فرنسا، كي ندرك أن مدارس التأريخ الشفويّ على اختلافها أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من علم التأريخ المعاصر. ونسلّط الضوء على تطور التأريخ الشفويّ في بريطانيا، على سبيل المثال.
كشف انعقاد المؤتمر الدولي الثاني للتاريخ الشفويّ في إنكلترا، في العام 1978 (عقد المؤتمر الأول في بولونيه الفرنسيّة في العام 1976)، عن وجود تاريخ شفويّ بريطانيّ خاص، كان اهتمامه الرئيسيّ هو تاريخ الطبقات الشعبيّة. وقد ازدهر في بريطانيا تيّار ريفيّ وعمّالي في آن واحد، غير جامعيّ وغير أكاديميّ أيضاً، خلال خمسينيّات القرن العشرين، وارتكز على أعمال ديالكتيكيّين كانوا قد تزايدوا منذ الثلاثينيّات، وعلى كتابة “تواريخ القرى”.
التقى هذا التيّار خلال الستينيات بتيّار آخر أكثر أكاديميّة وجامعيّة، وكان مستلهَماً من أعمال ريتشارد هوغار حول “ثقافة الفقر”، ومن أعمال بول تومسون الذي عمل على تأهيل الطبقة العمّالية الإنكليزيّة. وقد نجح هذا الأخير، مبكراً، في وضع مناهج كميّة للتاريخ الاقتصاديّ والاجتماعيّ في زمنه، واختار الاهتمام بالأفراد أنفسهم، العمّال الحقيقيين. كان اللجوء إلى المصادر الشفويّة في مثل هذا البرنامج أمراً أساسيّاً. وهكذا، فقد تشكّلت مجموعات مدرَّبة ومؤهَّلة من المؤرّخين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيّين، فعملوا على تأسيس “تاريخ مختلف” اجتماعي، يشمل العمل والنساء والتسالي والثقافة… إلخ، وذلك على أساس التاريخ الشفويّ وتاريخ الحياة… كان الجانب السياسي من هذا التوجّه الذي عرف بـ Workshops History هو إرجاع الكلمة للشعب وجعل التاريخ الرسميّ تاريخاً ديمقراطيّاً متمايزاً، مثله مثل تاريخ النخب. لهذا، كان التاريخ الشفويّ البريطانيّ تاريخاً شعبويّاً.
لم يهمل التاريخ الشفويّ البريطاني، مع ذلك، أعلى الهرم الاجتماعي، فكان هناك قطاع نشط جداً اهتمّ بشهادات شفهيّة من النخب الاجتماعيّة والسياسيّة، وقطاع اهتمّ بتاريخ المشاريع والشركات. وفي مجال السياسة والاقتصاد، تأسَّس الأرشيف الشفويّ البريطاني للتاريخ الإداري British Oral Archive and Administrative History في مطلع الثمانينيّات، وهو محفوظ في مكتبة London School of Economics. وقد توالت معه أيضاً أرشيفات تخصّصيّة كثيرة غطّت معظم قطاعات الحياة البريطانيّة.
التأريخ الشفوي العربي المعاصر[2]
ارتبط الاهتمام بالتأريخ الشفوي أولاً بنكبة 1948 واستمرار التهجير الفلسطيني والأزمة الفلسطينية إلى الجيل الثالث والرابع. ونتج هذا الاهتمام عن رغبة الفلسطينين في إقامة صلة بالأرض وأهلها المشتتين. كما ولّد رحيل الجيل القديم، الذي يتذكّر الحياة في فلسطين قبل النكبة، إحساساً بضرورة حفظ التاريخ والتراث وترسيخ هويّة الممانعة.
ليمتدّ الاهتمام بعد ذلك بالتأريخ الشفوي عموماً على أكثر من مركز بحثي في العالم العربي وفي هذا نذكر على سبيل المثال: مشروع “اللاجئون الفلسطينيون وتوثيق التاريخ الشفوي” التابع لمؤسسة القدس للثقافة والتراث، ومشروع “التاريخ الشفوي” التابع لهيئة الوثائق والمحفوظات في سلطنة عمان، ومؤتمر بيروت حول “التاريخ الشفوي” التابع للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومركز التاريخ الشفوي بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية بغزة، والمركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنيّة بالجزائر لتسجيل التاريخ الشفوي، ومؤسّسة وثيقة وطن في سورية.
وفي هذا السياق نشير إلى أن بعض الدول العربية بدأت منذ إعلان اليونسكو عن قائمة التراث اللامادي العالمي تهتم بوضع تراثها اللامادي والشفوي على هذه القائمة، ويمكن أن نورد الموضوعات التي سجلتها بعض بلدان العالم العربي على قائمة اليونسكو للتراث الشفهي اللامادي للإنسانية: الأردن: الحيز الثقافي لبدو البتراء ووادي رم؛ الجزائر: أهليل قورارة، والزاوية الشيخية والمراسم المتعلقة به، والعادات والمهارات الحرفية المرتبطة بزي الزفاف التلمساني (في ولاية تلمسان)، وعادات وطقوس ومراسم السبيبة او الصبيبة في واحة جانت، وركب أولاد سيدي الشيخ / الجزائر. وسلطنة عمان: البرعة؛ والعراق: المقام العراقي؛ وفلسطين: الحكاية الفلسطينيّة؛ ومصر: محلمة السيرة الهلاليّة؛ والمغرب: موسم طانطان، ومهرجان حبّ الملوك في مدينة صفرو، وعادات ودْراية بشأن شجرة الأرغان، ولحميّة المتوسطيّة، والفضاء الثقافي لساحة جامع الفنا في مراكش؛ واليمن: الغناء الصنعاني؛ وموريتانيا: التهيدين (الأدب الملحمي في الشعر الشعبي الموريتاني)، وملحمة تحي الدين الموريسكي.
التحوُّل من التاريخ الشفويّ إلى الأرشيف الشفويّ
ترافقت عودة الاهتمام بالتاريخ الشفويّ في أوروبا بتساؤلات جوهريّة حول الذاكرة والهويّة والوعي القوميّ والوطنيّ، وغذّى ذلك الاحتفال بذكريات عديدة لتاريخ علماء وفنّانين أسّسوا النهضة والأنوار الأوروبيّة، وخاصة بمرور قرنين على الثورة الفرنسيّة. وبدأت المؤسّسات والشركات، هي أيضاً، تتساءل في لحظة الذاكرة هذه عن هويّتها وتاريخها. ومنذ بداية الثمانينيّات، بدأ الجميع يتساءل حول المستقبل، فزاد الاهتمام بالماضي والبحث في الذاكرة والتاريخ الخاص، وبفهم معمَّق لهما.
أدّى ذلك إلى تطوّر تأريخ الشركات والمؤسّسات في المؤسّسات نفسها، وتضاعف عدد الجمعيّات واللجان المختصّة بالتاريخ الشفويّ في كبرى الإدارات وفي الوزارات أيضاً في الدول الأوروبية. ولعبت هذه الأخيرة دوراً هاماً في دمج الأرشيف الشفويّ في التراث المؤسّساتيّ، وفي الدمج النهائيّ لأرشيفها ضمن المصادر التاريخيّة. وتُعَدّ هذه المرحلة فاتحة العلوم الجديدة التي اختصّت بالأرشفة الشفويّة وقواعد المعطيات الناتجة عنها والتأسيس لعلم الأرشيف الشفويّ المعاصر.
يمكن القول إن إعادة إدخال المصدر الشفويّ في الدراسة التاريخيّة، تمّ التحضير له عبر فترات طويلة، وبشكل معمَّق، عبر زعزعة الأسس الفلسفيّة والإبستمولوجيّة “العلمويّة” التي كانت تؤسِّس للمدرسة التاريخيّة الفرنسيّة، وذلك في شقَّيها: التاريخ التقليديّ المسمّى “الوضعيّ” أو “المنهجيّ”، والتاريخ الكمّيّ المعروف بالحوليّات. وأدّت النقاشات والجدالات، التي تطوّرت منذ نهاية الستينيّات، في مجال فلسفة التاريخ، إلى إعادة تقويم روايات الرواة وكلماتهم، وردّ الاعتبار للشهود الفرديين في القراءة التاريخيّة.
جاء التحوّل الكبير في دراسة التأريخ والأرشيف الشفويّين، في العقد الأخير من القرن العشرين، مع تقديم عدّة أطروحات أكّاديميّة لمناهج بحث ارتكزت على مشاريع واسعة أو على دراسة محدَّدة لجانب من مجالات التوثيق الشفويّ (المنهج، التجهيزات التقنيّة، البرمجيّات، التصنيفات…). من جهة أخرى، كان لارتباط التوثيق الشفويّ بهيئات للتاريخ الشفويّ عظيم الأثر في إنتاج مراجع ودراسات بحثيّة وتوصيفيّة وتاريخيّة حول الأرشفة الشفويّة، الأمر الذي عزَّز في النهاية جذب هذا التيّار التاريخيّ للجامعات والبحوث الأكاديميّة.
ويمكن القول إن العقد الأخير من القرن العشرين شهد نسبيّاً وضع الأسس النظريّة والتطبيقيّة للتوثيق الشفويّ، ومهّد بذلك لإعلان اليونسكو في العام 2003 عن لائحة التراث اللاماديّ والشفويّ للعالم.
ومع تعدّد المدارس والاتّجاهات الحديثة في التأريخ الشفويّ المعاصر، فإنّ كافة هذه المدارس تتّفق على أهميّة الآليّات الرئيسيّة التي تمّ التوصّل إليها، حتى الآن، في جمع وتوثيق وأرشفة وبناء قواعد بيانات للذاكرة الحيّة.
[1] أضاف هذه الفقرة حول التأريخ الشفوي في الحضارة العربية من د. محمد الطاغوس.
[2] أضاف هذه الفقرة حول التأريخ الشفوي العربي المعاصر د. محمد الطاغوس.

إعداد: موسى الخوري

عادةً ما تستند كتابة التاريخ إلى شهادات القادة والأعيان الذين كانوا يمثلون السكان. ففي مدينة حيفا الفلسطينية، مثلا، ومنذ أعوام الانتداب إلى عام 1948، كانت هناك علاقات مباشرة بين القادة والأعيان العرب والقيادات اليهودية والبريطانيين، حيث دُوّنت لقاءاتهم وحواراتهم في كتب التاريخ والسياسة، أمّا صوت السكان فلم يُسمع على نحو علني.
في كتابها “حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت وناس” لروضة غنايم، الصادر حديثاً عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” ضمن “سلسلة ذاكرة فلسطين”، تعتمد الباحثة الفلسطينية على الروايات الشعبية لتقديم تقدم صورة مقربة لتاريخ المدينة.
يتتبّع العمل تاريخ خمسة أحياء في مدينة حيفا؛ هي: العتيقة، والكولونية الألمانية، وعبّاس، ووادي النسناس، ووادي الصليب، من خلال روايات ذاتية لأفراد سكنوا هذه الأحياء، يسردون فيها يومياتهم وتاريخ عائلاتهم؛ إذ تجمع هذه المرويات سير الناس وسيرة المدينة وفلسطين عامّة، إضافة إلى صور من ألبوماتهم الشخصية تمثّل انعكاساً للتطوّرات التي طرأت عليها منذ نهاية الفترة العثمانية إلى اليوم.
يرصد الكتاب التغيرات العديدة بعيدة المدى التي مرت بها المدينة خلال الفترة الممتدة من القرن التاسع عشر إلى عام 1948؛ حيث تحولت في مدة زمنية قصيرة نسبيًا من قرية صيّادي سمك إلى مدينة صناعية متطورة، ومركز تجاري مزدهر في المنطقة.
ويوضح كانت الحياة بسيطة في حيفا خلال فترة الحكم العثماني، فلم تتمكن من جذب الناس إلى أرضها إلا في أواخر هذا العهد. وساهم في هذا التطور ميناؤها وسكة الحديد التي كانت تمر جواره، فأصبحت محورًا مهمًّا في المنطقة التي تربط بين أوروبا وأفريقيا وآسيا والجزيرة العربية، ولا سيما مع مساهمة الوافدين إليها من دول أوروبا، منهم على سبيل المثال: المستعمرون الألمان، والمبشرون الفرنسيون، والمبشرون الإيطاليون والبهائيون وغيرهم؛ فجميعهم تركوا بصمات نوعية في المدينة، في المضمار الثقافي والعمراني والاقتصادي.
كان لهذه التغيرات، بحسب المؤلّفة، أثر كبير في النمو السكاني في المدينة؛ إذ جاء كثيرون من سكان القرى والمدن في فلسطين، ومن البلدان العربية المجاورة: أردنيون وسوريون ولبنانيون ومصريون وسودانيون وغيرهم، باحثين عن عمل في المدينة. وجاء موظفون وعمال من اليونان وتركيا وغيرهم، فتطورت المدينة على نحوٍ موسع في ثلاثينيات القرن الماضي، فبرزت الحياة الثقافية في حيفا على نحوٍ مميز، وبدأت تنتشر دور السينما والمسارح والمقاهي والصحافة والكتب وغيرها. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد المقاهي في حيفا ما يقارب سبعين مقهى في مطلع أربعينيات القرن الماضي، وهذه الحقائق كتب عنها كثيرون.
ويروي الكتاب تاريخ المدينة عبر سرديات الناس، ويسلط الضوء على قصة مدينة حيفا من زاوية مختلفة، وهي تاريخها من مخزون ذاكرة أهلها؛ أي تحولات المدينة من خلال سردية أهلها، فعلى سبيل المثال، في عدة سرديات روى الناس تجاربهم حينما تمكنوا من العودة إلى بيوتهم بعد انتهاء المعارك في عام 1948، فوصفوا حالها بعد عودتهم إليها؛ إذ تعرضت للغزو والنهب والتدمير. جاء في سردياتهم تفاصيل أكثر بهذا الشأن، فتحدثوا عمن استولى على بيوتهم، وماذا فعلوا من أجل استرجاعها.
وأُسّست الأحياء الخمسة التي يسرد الكتاب قصتها في الفترة الواقعة من منتصف القرن التاسع عشر إلى عام 1948. ولم يوجد في أي مصدر تاريخي ما يوثّق رقميًا الأعوام التي أُسست فيها تلك الأحياء، كما هو حال الأحياء اليهودية التي توثق في أدبياتها العام الذي وضع فيه حجر الأساس لكل مبنى من مبانيها، عدا حي الألمانية، وهو حي غير عربي. وتختلف الأحياء بعضها عن بعض أحيانًا، وتتشابه في أحيان أخرى، فهناك روابط تجمع بين تلك الأحياء، وفوارق كانت قائمة على الانتماءات الدينية أو العرقية أو الطبقية.
مدينة حيفا ذات طبيعة جبلية، وفي الجزء السفلي من المدينة، تركزت المتاجر والأسواق والميناء والسكة الحديدية وورشة الحرفيين، فأسس حيَّ وادي النسناس، مثلًا، سكانُه العرب المسيحيون في نهاية القرن التاسع عشر، وأغلبية من سكن الحي كانوا عائلات من الطبقة العاملة، وقسم كبير من مباني الحي الحجرية بُني بعفوية، منها ما بناه سكانها بأيديهم؛ نذكر على سبيل المثال بيت رجا بلوطين. والحي اليوم يشبه مشهدًا قرويًا، يظهر كأنه قرية عربية صغيرة في داخل المدينة الكبيرة. وأما حي عباس الذي نشأ في فترة الانتداب فقد بُني في الجزء الأوسط من الجبل، فطابع الحي كان أكثر مدنية، وإلى اليوم تشهد البيوت الحجرية الكبيرة والجميلة على وضع سكانها الأصليين، وتدل على انتمائهم إلى الطبقة الوسطى الثرية. أما العتيقة، فقامت على أنقاض حيفا القديمة أيضًا في القرن التاسع عشر، وتطورت في فترة الانتداب على إثر مرور سكة الحديد عبرها. اليوم، يوحي الحي بمكان منكوب. عُزلت الأحياء العربية على مر الأعوام عن الطبيعة؛ فعلى سبيل المثال حي العتيقة يقع على البحر، وكان سكانه صيادي سمك، لكن توسيع الميناء قطع الوصول إلى البحر. واليوم يمر الحي بعملية تدمير، وقريبًا سيندثر ليقوم مكانه حي جديد.
ويعاني حي وادي الصليب المصير نفسه، وهو في حالة انقراض وطمس، فيشبه القرى المهجّرة، ويذكّر بالقرى في ضواحي القدس. أما حي الألمانية فهو مبني على النمط الأوروبي، حيث نرى بيوتًا عديدة يكتسي سطحها الحجرُ الأحمر (القرميد)، ويُستعمل القرميد في أوروبا لتسهيل عملية إنزال الثلج. وفي الثمانينيات من القرن الماضي، اُتخذ قرار بهدم جزء من المباني الألمانية، فاحتجت الناس على ذلك، ونتيجة الاحتجاج قامت مساعٍ ومبادرات فردية من أجل الحفاظ على المباني، وأصبحت تعمل بصفة رسمية من خلال بلدية حيفا. هنا أيضًا نلاحظ ميزة خاصة للمدينة، حيث جمعت بعض المباني التأثيرات المعمارية الأوروبية والعربية؛ فالمنازل في المستعمرة الألمانية قد دمجت أيضًا عناصر بناء محلية مثل النوافذ الواسعة والغرف الكبيرة. إذا وقفتَ على جبل الكرمل ونظرت إلى ما أمامك، لا يمكن إنكار خصوصية مدينة حيفا، فأنت تنظر أمامك وترى في الوقت نفسه سماء وبحرًا وجبلًا، هذه ميزة خاصة بحيفا؛ فالمناظر الطبيعية الجبلية مرئية في كل مكان على الرغم من كثافة البناء.
وبمتابعة قصص الساردين حتى يومنا هذا، يظهر مصير الناس إلى ما بعد النكبة، فالتاريخ لا ينتهي عند نقطة زمنية معينة وهناك استمرارية للحياة. فكتاب “حيفا في الذاكرة الشفوية” يمثل كشف الستار عمّا حدث في الماضي، وهو تجربة كتابة المدينة بأسلوب مختلف، وربما يكون ملهمًا لما يجب أن نفعله اليوم، وذلك بالنظر إلى التدمير المستمر الذي يهدد الوجود الفلسطيني، على نحو ما نجد من تدميرٍ لأحياء حيفا واستمرار في تهويد المكان، وتهميش اللغة العربية والثقافة الفلسطينية في المدينة.
ثمّة صعوبات وتحديات اجتماعية عديدة لا يزال يواجهها أفراد المجتمع الفلسطيني حتى يومنا هذا، أحدها، التمايز الطبقي الظاهر بين سكان القرى والمدن؛ إذ تحرص العائلات الميسورة في مدينة حيفا – نموذجًا لبقية المدن الفلسطينية – على حفظ مكانتها المترفعة عن الانصهار بعلاقات طويلة الأمد مع أبناء الطبقات الأقل شأنًا، وهو ما تعكسه بوضوح ظاهرة النساء العزباوات اللواتي تراوح أعمارهن اليوم بين السبعين والثمانين؛ إذ ترجع علة عدم زواجهن إلى فكرة طبقية لم تُلغها ظروف الحرب والتهجير؛ فحين اضطرت بعض العائلات الفلسطينية من الطبقتين الأرستقراطية والوسطى إلى ترك البلاد، ظلّت عائلات أخرى في المدينة، وكان يصعب على العائلة تزويج بناتها ممن هم أقل مكانة.
وتقول الكاتبة إنّ هذه التجارب ولّدت لديها تساؤلات عن مفهوم الوطن، ومعنى أن يكون الفرد فلسطينيًا. وأنّها وجدت الإجابات في المقابلات التي أجريتها مع الناس، وعبر ألبومات الصور العائلية الخاصة بهم، وفي ثنايا جدران بيوتهم، حيث تمكنت من إعادة تشكيل الماضي الذي كان حاضرًا حيًا يومًا ما، ثم صار حنينًا وذكريات؛ فخلال تلك المقابلات أصبحت البلاد مكانًا ملموسًا، ووجدت أن فلسطين التي نستحضرها غالبًا أشبه بظل مبهم ينعكس في حياة الناس اليومية؛ فهي أصواتهم التي تملأ الأسواق، وشكل الحياة في الميناء وعلى الطرقات، وهي اللغة العربية التي ظلت سائدة منذ قرون في البلاد، والطبيعة التي نراها خلابة في جبالها وسهولها وترابها وبحرها وهوائها. فلسطين هي أسماء العائلات، وأسماء المدن والقرى والأحياء الباقية، وفي المقابل هي الشوارع التي طُمست أسماؤها، والأحلام التي انقطعت وتلاشت. هي روايات الناس الذين عاشوا يحملون ذكرياتهم، وهذه الروايات تمثّل شهادة حية عنها.
يعرض كتاب “حيفا في الذاكرة الشفوية”، بطريقة مباشرة، نحو أربع وأربعين سردية شفوية تمثل شهادات دامغة تشهد على تهجير العرب قسرًا، وحتى إن “هرب” بعضهم، فإن هروبهم كان قسريًا في حالة حرب، وكانوا على يقين بالعودة، فالهروب في تعريف القانون الدولي يُعتبر طردًا أو تهجيرًا؛ إذ جاء في نصه تعريف “التهجير القسري بأنه إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. فالتهجير القسري هو ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات شبه عسكرية، أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء أراضٍ معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلًا منها، ويكون التهجير القسري إما مباشرًا، أي ترحيل السكان من مناطق سكناهم بالقوة، أو غير مباشر عن طريق دفع الناس إلى الرحيل والهجرة”.
يُذكر أنّ روضة غنايم باحثة فلسطينية تعيش في مدينة حيفا. شاركت صورها الفنية والتوثيقية في معارض عدة. تحاضر في جامعات ومراكز ثقافية في موضوعات الهوية والانتماء، وأنسنة المكان والزمان. تُرشد جولات تثقيفية في مدينة حيفا ضمن مشروعها “حي وزقاق”، والذي يشمل محاضرات وورشات عمل في موضوعَي مذكرات الناس والتاريخ الشفوي.

https://alrai.com/article/146771/الرأي الثقافي/التاريخ-الشفوي-شهود-العيان-وضرورة-توثيق-الذاكرة
مفلح العدوان

احمد ابو خليل حكايا الحسين مع الناس كتاب عندي
https://jcss.org/wp-content/uploads/2021/12/%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8F%D8%B3%D9%8A%D9%86-1.pdf

تجديد اتفاقية اليرموك ومعهدي غوته الألماني والفرنسي

نسخ الرابط
إربد 27 آذار (بترا) جددت في جامعة اليرموك اليوم الاتفاقية المبرمة مع معهد غوتة الألماني، والمعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، والسفارة الفرنسية في عمان، لتنفيذ مشروع “التاريخ الشفوي في الأردن”.
جاء ذلك خلال لقاء رئيس الجامعة الدكتور زيدان كفافي مع الدكتور ميشال موتون مدير المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في الأردن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، والدكتورة فلسطين نايلي مسؤولة المعهد في الأردن، وروان الحميمات مسؤولة شؤون التعاون في السفارة الفرنسية.
ونصت الاتفاقية على تنفيذ مشروع حول التاريخ الشفوي في الأردن، الممول من قبل المركز الثقافي الألماني الفرنسي، والمعهد الفرنسي ومعهد غوته، بالتعاون مع الوكالة الجامعية للفرنكوفونية، حيث يتضمن هذا المشروع جمع شهادات شفهية عن فترة الحرب العالمية الأولى من أشخاص سمعوا روايات عن تلك الفترة، على أن يتولى جمع هذه الروايات طلاب من أربع جامعات أردنية، هي الجامعة الأردنية، وجامعة مؤتة، وجامعة الحسين بن طلال، بالإضافة إلى جامعة اليرموك، والمكتبة الوطنية الأردنية.
ويهدف هذا المشروع إلى تدريب عدد من طلاب الجامعات والمختصين على البحث في التاريخ الشفوي وصولا إلى تأسيس مجموعة من الباحثين الشباب الجامعيين، وخلق نوع من الحسّ لديهم بأهمية التراث الثقافي، وتزويدهم بالأدوات والخبرة المطلوبة للبحث في هذا التاريخ، لاسيما وأن الروايات الشفوية تعد مصدرًا رئيسيًّا للتاريخ في الأردن ووسيلة لتوثيق وتحليل الوعي التاريخي والحسّ بالهوية لمختلف المجموعات الاجتماعية التي شهدت هذه الفترة.
كما يتم بموجب هذه الاتفاقية تدريب طلبة الجامعات المشاركة على البحث في التاريخ الشفوي، حيث يقوم بالتدريب خبراء متخصصين في الأنثروبولوجيا والتاريخ، من خلال عقد عدة ورش عمل وجلسات تدريبية لهؤلاء الطلبة.

الرئيسية
مديرية التراث
المشاريع
المركز⦁ الإعلامي
ذاكرة العالم
قواعد البيانات
التاريخ الشفوي قيمته وأهميته   د. عبدالله مطلق العساف

لا يخفى على الكثيرين اليوم أنّ فكرة التّاريخ الشّفويّ قد حظيت في العشريات الأخيرة من القرن العشرين باهتمام لافت من قبل المؤرّخين والباحثين في العديد من حقول العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. وقد خلصت دراسات هؤلاء إلى آراء أبرزت أهميّة هذا النوع من التاريخ وقيمته التاريخيّة، وكذلك أهميّة الدور الذي يمكن أَن يلعبه في توسيع دائرة فهمنا ومعارفنا الاجتماعيّة على صعيد الأفراد والجماعات على حد سواء.
والقول بأنّ دراسة التّاريخ الشّفويّ المعتمد على الرواية الشّفويّة والذاكرة الفرديّة يثير مشكلات عويصة، منها المعرفيّة ومنها المنهجيّة، علمًا بأنّ التّاريخ الشّفويّ قديم في ظهوره، فقد ظهر لدى المؤرّخين المسلمين والأوروبيّين في القرون الوسطى. وما الظهور المجدّد للاهتمام به إلّا دلالة على أهميّته الراهنة بالنسبة للمجتمعات البشريّة.

فالتاريخ الشّفويّ كان ولا يزال أحد الرّوافد المهمّة في التّاريخ الإنسانيّ، لكونه يرتبط بالبحث المرويّ، جمعًا وحفظًا ودراسة، بكيفيّة منظمة، فهو تاريخ مكتوب بشكل رئيسي اعتمادًا على تحقيقات ومرويّات غير مكتوبة (شفويّة)، وهكذا فإنّ العمليّة التي يتشكّل خلالها هذا التاريخ تقوم على تسجيل المعلومات التاريخيّة التي تنطوي على أحداث وأخبار وحفظها وتحليلها. وبهذا يكون التّاريخ الشفويّ، هو كلّ التّاريخ المرويّ عن الآخرين.
ويُعدّ التّاريخ الشّفويّ من هذا الجانب، وسيلة لإعادة رسم حياة حافلة بأحداثها وتفاصيلها، وربما كان الأجدر أن نسمّي هذا منهج يُعنى بالذاكرة الحيّة، لأنّ ما يقدمه التّاريخ الشّفويّ، هو بمثابة إعطاء الدّم واللحم لهذه الأحداث الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الاقتصاديّة؛ ذلك أنّه يعكس المزاج العام للنّاس العاديين، ويسجّل بعض تفاصيل المعيش اليوميّ لهم، في المدّة المراد دراستها اعتمادًا على الرّوايّة الشفويّة (الشهادات) للأحداث التي شهدها شخص أو جماعة ما، وانطبعت في ذاكرتهم، وهنا يُعدّ الراوي الشخصيّة المحوريّة، مثلما أنه يُعدّ خزّانًا غنيًّا بالمعلومات التاريخيّة، بأشكالها المختلفة.

ومما يجدر ذكره أن ثمة أُناسًا كثيرين يخلطون بين التّاريخ الشّفوي والرواية الشّفويّة، والواقع أنهما ليسا شيئًا واحدًا، على الرّغم من قوّة الروابط المفهوميّة والدلاليّة، من ناحية المعرفة التاريخيّة الوثيقة بينهما. فالروايّة الشّفويّة التاريخيّة هي مادّة التّاريخ الشّفوي التي تمدّه بالمعلومات الضروريّة للباحث، وهي تتعلّق بذكريات الماضي لدى شهودٍ أو رواة، بوصفها روايّة شفويّة متواترة، وقد تستمر لأجيال عديدة. وهكذا فقيمة الروايّة الشفويّة تكمن في ما تحمله من تصورات وتمثّلات جمعيّة قد تستمر بفاعليّة في المتخيل الجمعي حقبًا طويلة.
أما التّاريخ الشّفويّ، فيُعدّ شكلًا من أَشكال النّشاط الإنسانيّ، ويشكّل تقنيًّا ومنهجيًّا مرحلة لاحقة على الرواية الشّفويّة، ولكنهما بسبب من علاقتهما الوثيقة بعضها ببعض، فإنّ كليهما يستعملان بشكل منتظم ومُتبادل أحيانًا، ليدلّ كلّ منهما على الآخر ، أو ليتبادلان المعنى نفسه. إلّا أنّ ما ينطبق على التاريخ الشّفويّ في الوقت الحاضر، هو معنى دراسة الماضي، وذلك عن طريق استعمال التواريخ المدّونة والمذكرات الشّخصيّة، إذ يتكلّم الرّواة عن تجاربهم الشّخصيّة، ومعايناتهم الحيّة للأحداث.
ولقد أوجد العصر الحديث نقلة مهمة في موضوع الموادّ التّاريخيّة غير الوثائقيّة، كان من شأنها أن غيّرت نظرة الكثير من الباحثين في التّاريخ، وأصبح التّاريخ الشّفوي لدى هؤلاء مصدرًا مكملًا، يمكنه أن يصحّح أو يحدّد الوقائع التي وثّقتها المصادر التقليديّة (المكتوبة)، وفي حال عدم توفّر الوثائق لأسباب مختلفة، فإنّ الحال يستوجب أحيانًا الاعتماد على الشّهادات والرّوايات الشّفويّة، لاعتبارات عدّة، منها أنّها تشكّل المصدر الأساسيّ للتوثيق التاريخي.

وكان من شأن التقدّم الذي يحدث في مجال التقنية الحديثة، أن جعل هذا النوع من البحث التّاريخيّ ممكنًا ومُتاحًا، غير أنّ ثمة دافعًا آخر أهم من ذلك ويكمن في التوسّع الحاصل في مفهوم البحث التّاريخي أو تعريفه، الذي لم يعد يقتصر على التّاريخ الكتابيّ المعروف بتقاليده العلميّة. ومن المفارقات اليوم أن حقل التّاريخ الشّفوي يعدّ من حيث الاهتمام والتركيز البحثي المتعدد، في مقدمة دراسة التّاريخ، لا سيما مع تزايد أعداد الباحثين والمؤرخين المختصّين بهذا النوع من التّاريخ، كما في حقول العلوم المختلفة.
وفي الآونة الأخيرة أخذ الاهتمام بجمع الروايّة الشفويّة واستعمالها وتوظيفها كمنهج مُعتبر للبحث التّاريخي، يزداد ويطّرد بزيادة الأبحاث والدّراسات التي تعتمد هذا المنهج بشكل كبير. ومع ذلك، فإنّ سِمَة التردّد والشّكّ وعدم الثّقة بكلّ من الرّوايّة الشّفويّة والتّاريخ الشّفويّ، لا تزال تشوب مواقف المؤرّخين التقليديين الذين يشكّكون بمصداقيّة هذا المنهج، ونجاعته في تقديم الحقائق بصورة موضوعيّة موثوقة. وينطلق هؤلاء من أساس أنّ ذاكرة الإنسان ليست دقيقة. مثلما أَن الرواة قد ينحرفون وراء عواطفهم ورغباتهم وتمنّياتهم في وصفهم للأحداث وحديثهم عنها.
بيد أنّ التاريخ الشفويّ يُعدّ لدى المدافعين عنه وعن قيمته، مصدرًا لا يقل أهميّة ولا دقّة عن المصادر المكتوبة، إذا أُحسن استغلاله، وعلى الرّغم من أنّ الروايات الشّفويّة أقلّ استمراريّة أو ديمومة، وأكثر عُرضة للتّحريف من المصادر الماديّة والمكتوبة، إلّا أنّ بعض الوثائق الشفويّة يُحفظ في الذاكرة، وتنتقل من جيل إلى جيل بدون تغيير تقريبًا. وعند هؤلاء أنّ رفض اعتبار التاريخ الشّفويّ مصدرًا تاريخيًّا يعتبر موقفًا رجعيًّا من التّاريخ، الذي يقصر دور المؤرخ على دراسة التّاريخ الرّسمي (تاريخ النخبة)، ودراسة القضايا التي تهمّ تلك النّخبة، ومن شأنه أن يختزل دور الشعب أو العامّة من الناس.
ولا يمكن إنكار أنّ التّاريخ الشّفوي قد أَعطى ويُعطي أبعادًا إنسانيّة طالما كانت منسيّة أو مهمشة عن ميدان التاريخ الكتابي، فضلًا عن أنه يصحّح أو يستدرك مسار عمليّة كتابة التّاريخ التي ظلت حكرًا على سِير القادة والأبطال والزّعماء التّاريخيين والفئات المؤثّرة في الأحداث، ويعيد التوازن إلى عمليّة كتابة التاريخ، ولفت الاهتمام بالفئات والطبقات الدنيا، وتجارب الناس العاديين، كما المهمّشين.
وهكذا فإنّه يُنظر اليوم إلى التاريخ الشفويّ باعتباره حقلًا سخيًّا واعدًا ورافدًا معرفيًّا مهمًّا، يجب أن يُوضع في الخطوط الأماميّة لديمقراطيّة التّمكين للجميع، في معرفة التّاريخ وتفاصيل أحداثه، بما في ذلك حقّ الأجيال المقبلة في الاطلاع على الأرشيف الوطني أو القومي. ولذا لابُدّ من الوعي بالقيمة المعرفيّة والتاريخيّة لمثل هذا النّوع من الوثائق، وتاليًا حتميّة الوعي بقيمة جمعها ورصدها وإنتاجها وحفظها للأجيال، وإتاحتها للجميع. وتلك مهمّة لا تكفيها حماسة العدد المتزايد من الباحثين في هذا النّوع من التاريخ، وإنما يلزمها قيام مؤسّسات وهيئات بحثيّة تتبنى مشاريع كبيرة في هذا الخصوص.
————
التراث الشعبي الأردني معاجم ودراسات ومؤتمرات
العدد 21 – جديد النشر

أحـلام أبـو زيد
كاتبة من مصر
نعرض في هذا العدد لمجموعة من الدراسات تعكس بعض الإنتاج الفكري لحركة التراث  الشعبي بالأردن. وقد تمحورت هذه الدراسات حول التراث الشعبي الأردني بصفة عامة، والأدب الشعبي بصفة خاصة. وقد تميزت هذه المجموعة بتنوع في منهج النشر والبحث، ما بين الكتاب ذو الفصول والأبواب، والموسوعات ذات الترتيب الهجائي، وأبحاث المؤتمرات المجمعة. والأعمال المرتبطة بأحد الأعلام ويُعد الملف الأردني هو الملف الثاني في منطقة الشام بعد أن عرضنا لملف سوريا منذ ثلاثة أعوام تقريباً (في العدد التاسع من هذه المجلة). ونعترف أن هذا قليل جداً على منطقة الشام الغنية بالتراث الشعبي. لذلك نعد أننا سنحاول إعداد الملف الفلسطيني في العدد القادم ثم الملف اللبناني لاحقاً إنشاء الله. أما الأردن فقد أبحرنا خلالها في عالم الأمثال الشعبية، والشعر النبطي الأردني، ومعاجم الألفاظ، والتنوع الثقافي، والتاريخ الشفهي، غير أننا سنبدأ بكتاب هو معلمة بحق كما جاء في عنوانه.
معلمة للتراث الأردني
آثرت أن ابدأ الملف الأردني بهذا العمل الموسوعي الضخم لعدة أسباب أولها أنه يحتفي بعَلم من أعلام الأردن في مجال التراث الشعبي الأردني وهو روكسي بن زائد العزيزي (1903- 2004) الذي عاش 101 عاماً وعرف بجهده الموسع في جمع وتوثيق التراث الأردني في العديد من المجالات، وله أكثر من أربعين مؤلف. أما السبب الثاني فيعود لأن الكتاب يحوي عشرات الموضوعات المتعلقة بالتراث الشعبي الأردني،

وإن غلب عليها الأدب الشعبي الذي هو ثيمة هذا الملف عامة. والكتاب يحمل عنوان «مَعْلَمة للتراث الأردني» ويقع في خمسة مجلدات كبرى، وهو الطبعة الثانية التي أصدرتها وزارة الثقافة الأردنية عام 2012 بعد مراجعة بعض التكرارت وحذف بعض الموضوعات البعيدة عن التراث الأردني، وإعداد الهوامش في مكانها من الصفحة. ومن ثم فإننا أمام مجموعة أعمال كاملة لمؤلف له باع في هذا المجال، ويجب توجيه التحية لوزارة الثقافة الأردنية لتصديها لإصدار هذا العمل الذي يجب أن تسير على منواله وزارات الثقافة النظيرة في البلاد العربية، وإن كانت التجربة المصرية لها باع في هذا المضمار حيث تم نشر الأعمال الكاملة لرائدين في التراث الشعبي العربي هما الدكتور عبد الحميد يونس والأستاذ أحمد رشدي صالح. نعود للمعلمة التي يؤثر المؤلف أن يطلقها على الكتاب بدلاً من مصطلح «موسوعة» أو «دائرة معارف» اعترافاً بفضل أستاذه العَلامة أنستاس ماري الكرملي صاحب هذا الاصطلاح. وقد قسم العزيزي معلمته إلى خمسة أقسام في خمسة مجلدات، تناول القسم الأول موضوع «الأسماء والحكم ومناسباتها وحكاياتها وقصصها» موضحاً قيمة الأمثال في دراسة حياة الشعب وعقليته، ومن ثم كان المؤلف حريصاً على توثيق المثل كما ورد على أفواه الجماعة الشعبية مهما كانت الألفاظ الواردة به، وقد فرق بين الأمثال المرتبطة ببيئة محدودة في مدينة أو إقليم والأمثال المرتبطة بكافة طبقات الشعب والتي قد تتجاوز عدة مناطق عربية. وعلى هذا النحو قدم لنا موسوعة للأمثال مرتبة هجائياً أورد تحت كل مثل شرحاً للمعنى وللمفردات، وقصة المثل إن وجدت، ومضرب المثل، والسياق الذي يردد فيه، ومن ثم فقد نجد أمثالاً لا تحتمل سوى ذكر مضربها فقط في كلمات قليلة مثل:
إلرزق في النطات: مثل يضرب في أن العمل يأتي بالرزق وهناك أمثال أخرى يتبعها المؤلف بشروح وحكايات مثل: كل شيء محسوب احسابه غير ان تخدم اكلابه، ويروى: كل شي حسبنا احسابه غير الدق ع بابه. وهما مثلان يضربان في وقوع ما لم يكن يتصور حدوثه، ويفرد المؤلف لحكاية المثل والأشعار والحكم المرتبطة به. أما القسم الثاني من المعلمة فقد خصصها العزيزي للأسمار والحكايات والألغاز التي يسميها البدو (الفتاوي). والأسمار جمع سمر وهو الحديث في الليل، وهو غير السامر الراقص، غير أن المؤلف استرسل في شرح السامر الراقص دون أن يعرف الأسمار التي نستنتج من الكتاب أنها أحد أشكال الحكايات اليومية وأطلق عليها اسم «تعليلة»، وقد سجل منها 40 تعليلة باللهجة المحلية للرواة شارحاً للمفردات المستغلقة. وأعطى لكل منها عنوان مثل: تسامح وكرم- الدخيل- بين نارين- وشاية- الغيرة..إلخ. وقد احتلت تلك الأسمار ثلثي هذا القسم تقريباً. ثم عرض المؤلف بعد ذلك لأسماء الأعلام التي وردت في تلك الأسمار مشيراً للدرس الاجتماعي المستفاد من كل منها. لينتقل بنا إلى موضوع جديد في هذا القسم وهو الآداب الاجتماعية التي كانت مرعية في الأردن كالآداب بين الزوجين والأهل والأبناء، وآداب الضيافة، والأكل، والقهوة، والطنيب، والحديث، وآداب العونة (التعاون)، والمجالسة، وآداب المرافقة في السفر، والمشاركة، وأداب التعليلة التي يصفها المؤلف بأنها سهرة المحبين تتم عادة بين فتى وفتاة غير متزوجة، فالشاب يقعد خارج الخباء ويحدث الفتاة عن بطولاته ويطري جمال حبيبته والويل له إذا قبلها، فإنه يغرم غرامات باهظة، وتفخر البدويات بكثرة الذين تعللوا معهن، على نقيض ذلك تشعر الفتاة بالحقارة إذا لم يلتفت إليها أحد. كما يفرد المؤلف قاموسا صغيرا تحت اسم المغمز أو الكنايات المتداولة في المأثورات القولية الأردنية، مثال: إبن عيلة: كناية عن الوجيه- إيده خفيفة: كناية عن السارق الحاذق- راديو جديد: كناية عن الثرثار- نشفت ريقه: كناية عمن لقي أشد الأهوال. وأنهى المؤلف كتابه بفصل قصير حول ألعاب الأطفال بداية من سن 15 سنة حتى سن 40 سنة. غير أننا لم نجد في هذا القسم نماذج من الألغاز التي وعدنا بها المؤلف في المقدمة. أما القسم الثالث فقد تناول فيه المؤلف عدة موضوعات في التراث الشعبي في العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية بدأها بباب حول القضاء العرفي بعنوان «أنظمة البادية وحقوقها» تناول فيه قيمة القضاة الاجتماعية وترتيب مكانتهم القضائية، حيث عرض للدعاوي القضائية وتصنيفها، ومراحل المطالبة، وإقامة الدعاوي الحقوقية، وموعد النظر فيها والشهود. ثم انتقل لوسائل الإثبات والمزارات وأنواع العطوة، وجرائم العرض الكبرى، وبعض الحقوق المتفرقة، منتهياً بالقضايا الحقوقية ومعالجتها. ثم تناول العزيزي مجموعة أخرى من الموضوعات المتعلقة بالعادات والتقاليد الأردنية، حيث سجل بعض العادات المرتبطة بالأفراح كعقد الزواج، واحتفالية الزفاف والنقوط، كما عرض لعادات الوفاة المرتبطة بالنواح والمعيد والندب والرثاء، ثم العادات المرتبطة بالجركس وأصولهم، ثم الذبائح وأنواعها، وتوصيف بيوت الأرادنة وتطور ملابسهم، والمعارف المرتبطة بالطب الشعبي، منهياً هذا القسم بباب حول أوابد الجاهليين وأوابد الأرادنة والوشم. أما القسم الرابع من المعلمة فقد خصصه العزيزي لثلاثة موضوعات مختلفة، الأول عرض فيه للشعر الشعبي والشعراء الشعبيين أمثال: سالم القنصل، وجميل ابو العثم، وسالم الفلاح الشاهين، وعبدالله العكشة، وابو الكباير، وعبدالله اللوزي، وسلامة الغيشان. ثم خصص فصلاً حول بعض الأشعار مجهولة المؤلف. أما الموضوع الثاني فقد تناول فيه موضوع الخيل ونشأتها وتدجينها وكراماتها متناولاً أصول بيع الخيل الأصيلة والمعاني والرموز المرتبطة بالخيل، والخيل في الديار الأردنية. أما الموضوع الثالث فقد خصصه للأرادنة ومعارفهم حول الأنواء أتبعه بباب اشتمل اصطلاحات الفلاحة والزراعة عند الأرادنة. أما القسم الخامس والأخير من معلمة التراث الأردني فهو عبارة عن معجم قيم اشتمل على شرح وتأصيل للألفاظ الأردنية مرتبة هجائياً. وهذه التجربة قد تمت في عدة بلدان عربية منها الإمارات ومصر والجزائر.. ومن جانبنا نأمل أن تكون الفرصة مواتية لإصدار معجم موحد للألفاظ العربية. وقد أورد العزيزي المفردة الشعبية وشرح مفهومها الثقافي حسب مقصد الجماعة الشعبية، ثم شرح التأصيل اللغوي المعجمي لها من لسان العرب. وعلى هذا النحو اشتمل المعجم على مفردات خاصة بالأدوات، والأطعمة، والتعابير اليومية، والطب الشعبي، وأداب السلوك.. وكافة المفردات المستعملة في سياقها الشعبي، مثال: أفلت، وانفلت؛ انطلق فجأة، وإذا قالوا فلتان، عنوا بذلك أنه طلّق كل القيم، ولم يعد يتقيد بشيء مما يصون الأخلاق، والأنثي فلتانة، والجمع للذكور فلتانين، وللإناث فلتانات، وفلتة فجأة، وإذا قالوا ولد فلتة، عنوا بذلك أنه عبقري. وفي اللغة (أفلتني الشيء) وتفلت مني وانفلت وأفلت فلان فلاناً خلّصه، وأفلته غيره، والفلتة الفجأء. لسان العرب، مادة (ف ل ت). ونأمل لهذا العمل المتميز في طبعاته القادمة أن يسجل موضوع كل مجلد على الغلاف ليتيسر للقارئ التعرف على محتوى المجلد بيسر. ونكرر في النهاية الإشادة بوزارة الثقافة الأردنية لإصدارها هذا العمل الذي يُعد مجالاً خصباً للباحث الذي يريد التعرف على التراث الشعبي الأردني بكافة مجالاته، وهو وثيقة يفخر بها كل أردني عاشق لهذا التراث.
ألوان من التراث الشعبي
وفي إطار بحث التراث الشعبي الأردني صدر في 2011 كتاب طه الهباهبه بعنوان «ألوان من التراث الشعبي في الأردن» عن وزارة الثقافة الأردنية، ويقع الكتاب في 191 صفحة، يعرض فيه المؤلف التعريف الأولي لكلمة «تراث» كما ذكرت في بعض آيات القرآن الكريم،
مشيراً لكونها كلمة أصيلة مستمدة من ينبوع الحضارة العربية والإسلامية، وتعني كل مايخلفه الإنسان لورثته من بعده، ويشير إلي ضرورة الحفاظ علي التراث من أجل الحفاظ علي الهوية الوطنية بشكل خاص وعلي الوحدة القومية بشكل عام، ثم يعرج إلي كلمة الثقافة في جدلية تؤكد أن مفهوم التراث (مصطلح العامة) وهو الأقدم في مخزوننا المعرفي، وهو ما ينتشر بين عامة الناس من أفكار وتجارب وخبرات، أي أمثالهم وألفاظهم وتعبيراتهم وقيمهم ومعتقداتهم وصنائعهم.
هذا المفهوم قد تراجع الأن أمام مفهوم الثقافة الوافد إلينا من الدراسات الغربية. ثم يستعرض أهمية التراث كسلاح يواجه به الشعوب أشكال الغزو الثقافي في وقتنا الحاضر. ويشمل الكتاب العديد من الموضوعات المتفرقة حول التراث الشعبي في أربعة فصول، بدأها الهباهبه بفصل حول الحصاد متناولاً موسم الحصاد الذي يأتي عادة في أشهر الصيف، وأدوات الحصاد الرئيسية وهي اليد البشرية التي تستخدم في قلع الزرع، والمهارة التي يملكها الحصَّاد في ذلك، مع ترديد الأغاني التي تتعلق بالحصاد وطقوسه. ثم المنجل: وهو قطعة حديد على شكل علامة استفهام ويستخدم في قطع سيقان القمح أو الشعير..إلخ. ثم يتناول في الفصل الثاني المعنون «الوشم ذهب الفقراء» مفهوم الوشم والعادات والأشعار المرتبطة به. وقد عرف الأرادنة هذا اللون التراثي ومارسوه صناعة وتطبيقاً عملياً، ثم يعرض للأماكن التي يتم بها الوشم على الجسم سواء على ساعد اليد أو ظهر الكف أو بين العينين، أو الأنف، أو الشفاه..إلخ، ولكل طريقتها وأشكالها المتعددة وأدواتها. وقد أطلقوا على الوشم أسماء كثيرة أهمها: الدق- النقش أو النقرشة أو المنقرش- النكت- الخال. أما الفصل الثالث فقد خصصه المؤلف لأغاني الصيد والبحر المرتبطة بمدينة العقبة الأردنية، مسجلاً للعديد من النصوص المرتبطة برحلات البحر والممارسات المرتبطة بها كرفع الأشرعة:
ياويلا دانه دان دان
ياويلا دانه
والله الزمان الزمان الزمان                            خلي رماني
لنصب شراع العال                                    براسك يا فرمان
وامشي بوسط الباح
وامسك السكان
ويقارن المؤلف بين أغاني البحر في الأردن وفلسطين ومنطقة الخليج، كما يعرض لأثر اللهجة المصرية واللهجة السعودية على أنماط الغناء عند الصيادين. أما الفصل الرابع والأخير فقد خصصه المؤلف للألعاب الشعبية الأردنية والتي يرى أنها قد تتشابه مع الكثير من البيئات العربية وغير العربية مع اختلاف بعض الألفاظ. ومن بينها ألعاب: طابة الشرايط- سبع جور- القلول أو الدواحل أو الروس أو البنور- الدحله أو الدحروج- قرد وشارة او (أنويقيسه)- الخويتمه أو الفنيجيله أو الصينيه- دق ذويب ع الغنم- حدره بدره- الشده- السيجة- سيجة المقص او القطار- الحاب- الطاب- الفنة- القلعة..إلخ. ويقدم المؤلف شرحاً لطريقة كل لعبة ومراحلها والغناء المصاحب والأدوات إن وجدت. وقد صاحب الكتاب في فصوله الأربعة العديد من الصور التوضيحية التي ساهمت في شرح المواد التراثية التي قدمها المؤلف.

كتابان لهاني العمد حول الأمثال والأدب الشعبي
خلال عام 2008 صدر كتابان لهاني العمد وهو من رواد التراث الشعبي الأردني، ونتصور أن الكتابين يكمل كل منهما الآخر، فالأول هو معجم مصنف للأمثال الأردنية، والثاني مجموعة دراسات متخصصة معظمها أبحاث تحليلية حول الأمثال الشعبية تفسر العديد مما جاء بالمعجم، إلى جانب بعض الدراسات حول الشعر والنكتة وألف ليلة وليلة. أما المعجم فهو  مصنف ضخم قارب السبعمائة صفحة بعنوان «الأمثال الشعبية الأردنية» صدر عن وزارة الثقافة ضمن سلسلة كتاب الشهر رقم 134. والكتاب صدرت له عدة طبعات، وفي كل مرة يضيف المؤلف الجديد، إلى أن بلغ عدد مواد هذه الطبعة 5000 خمسة آلاف مثل.

ويشير العمد إلى أن هذه الطبعة تتميز بإضافة بعض الأمثال العربية التي وردت في كتاب «ألف ليلة وليلة»، ولها ما يشبهها في الأمثال الأردنية، منها ما جاء بنصه، ومنها ما جاء التشابه في المعنى. ويضيف قوله: لعلي أتمكن من إضافة ما أورده الميداني من أمثال في كتابه «مجمع الأمثال» وأجد له نظائر في أمثالنا الشائعة في الأردن، وذلك في طبعة قادمة إنشاء الله.
ومن خلال الفهرس سنجد أن المؤلف رتب الأمثال هجائياً، وقد رقم أمثال كل حرف ترقيماً مستقلاً بذاته فحرف الألف يبدأ من 1 حتى 876 وهو من أكثر الأبواب احتفالاً بالأمثال. أما حرف الباء فيبدأ من 1 حتى 275 . أما حرف الثاء فيبلغ 22 مثلاً فقط وهكذا. وقدم العمد العديد من التفسيرات عند كل مثل، أهمها أنه حدد مضرب كل مثل، وهو العنصر الأساس في شرح موضوع المثل الشعبي. كما قدم شرحاً للمفردات التي قد تستغلق على القارئ، ويحسب للمؤلف أنه اجتهد في ضبط مفردات الأمثال بالشكل بدقة متناهية حيث أسهم ذلك في التعرف على نطق كل مثل حسب سياقه الشعبي. ثم أنه قدم التنويعات التي وردت حول المثل إن وجدت، فضلاً عما ذكره في المقدمة من إضافة بعض الأمثال التي وردت في كتاب ألف ليلة وليلة. وتبدأ أمثال هذا الكتاب بحرف الألف الذي يتصدره المثل التالي:
آبْ أُقْطُفْ اْلْعِنَبْ وْلاَ اتْهَابْ.
وكذلك: إنْ هَلْ آب كُلْ عِنَبْ وْلاَ اتْهَابْ.
وكذلك: لَنْ مَرْ آبْ وما ذَرِّيت عِدَّكْ بالهَوَا انْغَرّيتْ.
يضرب في طبيعة شهر أب.
ويرد مع المثل شرحاً لبعض المفردات:
عدك: كأنك- إنغزيت: أصبحت هدفاً للخديعة.
والمثل على هذا النحو يقع ضمن المأثورات القولية التي تكشف عن الطبيعة الطقسية الزراعية المرتبطة بالريف، على نحو ما يرد من أمثال حول الشهور القبطية في مصر: برمهات روح الغيط وهات..إلخ. وجميعها تحتاج لجمع ميداني عربي لرصدها وتوثيقها. حيث نجد العديد من التشابهات العربية في مضمون المثل: لبس المذراه بتصير امراه. وكذلك: لبس المقشا بتصير ست النسا. والمثلان كما قدمهما العمد يضربان في قيمة المظهر وقدرته على خداع النظر. وفي مصر: لبس البوصة تبقى عروسة..إلخ. غير أننا قد نجد بعض الأمثال التي أوردها المؤلف قد تكون غير مكتملة وقد وضع عدة نقاط مكان الكلمة الناقصة، مثال: ….. واحد عيب على كل العطارين (يضرب في أن السيئة تلغي جميع الحسنات)، أو المثل: كل قوم ولا…… امقشطين النور (يضرب لكل من خرج عن المألوف والمعقول). وقد تكون هذه النقاط محل كلمات خارجة أو غير مفهومة عند التدوين أو لأسباب أخرى، غير أن المؤلف لم يذكرها لنا.
ولعل أهمية هذا المعجم – ولا نقول الكتاب- تأتي من غزارة مادته وحرص صاحبه على التوثيق والشرح ومتابعة كل ما يستطيع جمعه من جديد الأمثال من حين لآخر، مما يجعلنا نطلب من الأستاذ الجليل الدكتور هاني العمد أن يقدم لنا في الطبعة القادمة تصنيفاً موضوعياً لهذه الأمثال، أو كشافاً يعكس مضارب هذه الأمثال من الناحية الموضوعية حيث سيسهم ذلك في الكشف عن العديد من العناصر الثقافية الأردنية. فإذا نظرنا لمجموعة الأمثال التالية سنجد الحاجة الشديدة لمثل هذا التصنيف الموضوعي:
بخت المعدل امبدل (يضرب في أن الحظ لا يستقيم لأحد)
تحكي الكلمة وتخبى بالقرنه (يضرب فيمن كان طبعه الدس والتحايل)
حط اللحمة قدام البس وقاله: هُص (يضرب لمن لا يحسن التصرف)
خلي الشختورة مطمورة (يضرب للحث على تناسي مثالب الآخرين)
شو جابت لدار ابوها (يضرب فيمن لا يأتي بجديد)
لنذال ما تنشرب قهوتهم (يضرب فيمن لا يحافظون على شرف الكلمة)
هذه الأمثال لا يجمعها سوى الترتيب الهجائي فقط رغم أنها تتعرض لموضوعات عدة كالحظ والتحايل وحسن التصرف والعفو والشرف..إلخ) مما يجعلنا نؤكد دعوتنا للدكتور هاني العمد بأننا في انتظار تصنيف موضوعي في الطبعة القادمة.
أبحاث في الأدب الشعبي
أما الكتاب الثاني لهاني العمد فيأتي في إطار الدراسات والأبحاث الأكاديمية المجمعة، حيث  صدر عام 2008 الطبعة الأولى من كتابه «أبحاث في الأدب الشعبي» عن دار نشر أمانة عمان الكبرى، الدائرة الثقافية، والكتاب يقع في 328 صفحة، اشتمل على مجموعة دراسات متفرقة للمؤلف تتمحور حول الأدب الشعبي من بينها مجموعة دراسات تحليلية لموضوع المثال وهو ما جعلنا نشير في المقدمة إلى أن هذا الكتاب قد يكون مكملاً لموسوعة الأمثال التي عرضنا لها منذ قليل. والحق فإن المؤلف في مقدمته قد عرض لمحتوى تلك الدراسات بمنهج مميز، لم يكن لدينا حيلة في التصرف فيه، أو إعادة عرض تلك الدراسات بطريقتنا، ومن ثم سنعرض ما أورده المؤلف حول تلك الدراسات دون تدخل منا.

يقول هاني العمد:
في البحث الأول «الأمثال الحوارية: الأمثال الشعبية الأردنية أنموذجاً» درستُ الأمثال التي تُعنى بالحوار بقصد إظهار أهميتها في مجموعة الأمثال الشعبية الأردنية، وأظهرتُ صيغها التي تنحو نحو الإختصار الشديد، وتقوم على بناء تشويقي، وتتضمن فكرة تتطلب الفهم العميق للطبيعة البشرية. كما استعرضتُ إيحاء الكلمات في هذه الأمثال، وقدرتها على حمل أصوات مختلفة، مظهراً بناءها اللغوي، وكذلك عناياتها في موضوعات الحياة العامة العادية، دونما الدخول في التفاصيل. وقد ظهر لي أن بعض هذه الأمثال تتضمن جدلاً أو حواراً خفياً.
وكان وسيلة لتقطير الأفكار لا تقريرها، ومجالاً للنفاذ إلي جوهر الأشياء مما يعني أن هذه المميزات مجتمعة تخلق حالة من الحرية التعبيرية أمام من يستعملها، بصرف النظر عن الناس الذين قد يتفقون في أثناء الحوار وقد يختلفون. وفي البحث الثاني المعنون بـ «شعر البكائيات النسوي في الأردن: بكائيات البلقاء أنموذجاً»، تحدثت عن أهمية النص الشعري النسوي، ولاحظتُ أن هذا الشعر مليء بالقضايا التي تستحق التعليق والتحليل، وانطلقتُ من دراسة العلاقة القائمة بين شعر المرأة وحادث الموت، حيث تقوم المرأة بإثارة جملة قضايا، وتشير إلي أحداث مثيرة، الأمر الذي يدلنا علي رأي المرأة في حادثة الموت، وكيفية تعاملها مع هذا الحادث. كما يطلعنا هذا الشعر على تصورات المرأة ومعتقداتها، لذلك اتجهتُ إلي دراسة موضوعات هذا الشعر، ومعانيه وما تضمن من حوار داخلي ومشاهد احتفالية. وفي هذه الأثناء بَيّنَتْ المرأة بشاعة الموت عندما يصيب أحد أفراد الأسرة. هذا إلي جانب عنايتي بتحليل معاني هذا الشعر، وموقف المرأة من الغيبيات وتصوراتها للقبر ومايجري فيه. كما أبنتُ ما في هذا الشعر من جودة وإتقان ورصانة، فضلاً عن الارتجال وسرعة التأليف، وتطويع بعض القوالب لاستيعاب الجديد. وفي البحث الثالث «الأمثال الشعبية الأردنية الثلاثية: دلالات النص والأسلوب واللغة» بَيّنْتُ أن المقصود بهذه الأمثال تلك التي تتعامل مع ثلاث قضايا أو وقائعَ ووردت في المثل الواحد. لذلك كان علي أن أبين مضربها وتأويلاتها القابلة للتغيير والتبديل. كما أشرتُ إلى دلالات النص من حيث هي كلمات وأسماء، في حين بحثت في روابط النص المَثَلي. ولأن أسلوب هذه الأمثال تتميز ببعض العوامل الطريفة، فقد أوضحت عناصر سلسلة الكلام، وقدرة المثل على حمل القارئ أو المستمع إلي الانتباه والتركيز. مشيراً إلى اللغة التي لعبت دوراً مهماً في الصياغة والتركيز والاختصار. وذهبت إلى أن للنص علاقة إسنادية، وأن للألفاظ منحى دلالياً يحدد ماهية الأسلوب والتركيب والإحالة. ولا يكاد يخلو نص مَثَلي من ضمير أو اسم إشارة أو حرف جر. مع ميزة إضافية وهي أن الكلمات لاتجود بالمعنى فقط وإنما تتعامل بالوظائف التي تظهر من خلال الخطاب. أما البحث الرابع المعنون بـ «ملامح النكتة الشعبية في الأردن: ثقافة شعبية متحركة وفاعلة» فقد بيَّنتُ فيه فعل النكتة الشعبية وشيوعها بين الجماهير والمجتمعات. وكان لابد من إظهار الخلاف بين النكتة والنادرة، وتبيان ملامح الشخصية الساخرة، وإظهار أسباب انتشار النكات في المجتمع الأردني، وتطورها، وارتباطها بالنقد الاجتماعي، وبَيّنْتُ كيف ساعدت التكنولوجيا المعاصرة على سرعة انتشار النكات، فضلاً عن جرأتها في نقل الواقع، وقلة عناياتها بالوقار الأخلاقي وتحطيمها للمحذورات. ولم تجمع النكات التي سادت وتسود في المجتمع الأردني. ومع ذلك، فقد جمعتُ حوالي 250 نكتة، وأخضعتها للدراسة والتحليل. وقد انحصرت دراستي في جوانب محددة هي: تقنية النكتة ومرتكزاتها اللغوية، والسرد الشفاهي وأهميته في مجال النكتة وشيوعها، فضلاً عن صياغتها على أسلوب السؤال والجواب. إلى جانب عناياتها بالمشاهد التصويرية وما تحمله من معارف قادرة علي كشف الحُجُب وتجسيد الواقع. وفي المبحث الخامس درستُ الأمثال المتشابهة في كتابين هما: مجمع الأمثال للميداني، والأمثال الشعبية الأردنية، وهي المجموعة التي قمتُ بجمعها وما زلت ابتداءً من أواخر الستينات من القرن الماضي. وقد بلغ عدد الأمثال المتشابهة في المجموعتين 124 مثلاً، تشابهت في اللفظ والمعنى والمضرب إلي حد ما. وكان لابد من قراءة معاصرة لأمثال الميداني، تمهيداً لمقاربة النصين، والتعرف على المدلولات المتشابهة، ومراقبة مواطن الاختلاف من حيث اللغة والبنية النحوية. ودرستُ أسباب التشابه، كما تناولت فكرة الحيز المثلي، حيث أظهرتُ أن المثل من خلال ألفاظه ومعانيه له حيز يحتله، ومشهد يظهر من خلاله. ثم ذهبت إلي تحليل علاقة المثل بالواقع الاجتماعي. وألحقتُ بهذا البحث ملحقاً تضمن النصوص المثلية المدروسة في كلا الكتابين. وقد خلصتُ إلي أن الأمثال قد وُظّفتْ لخدمة المجتمع وحركته في كلتا المجموعتين.
ويهدف البحث السادس الموسوم بــ «صورة المرأة في الأمثال الشعبية الأردنية» إلى توضيح ملامحها في هذه الأمثال، باعتبارها تجارب قد حدثت ويمكن حدوثها. وقد أظهرت أمثال المرأة جرأة في طرح قضاياها ومشكلاتها. وبَيّنتُ أن كثيراً من الأمثال قد كُرِّسَتْ لغرس سوء الظن بالمرأة، وأن صورتها سواء أكانت إيجابية أم سلبية، ظهرت أكثر وضوحاً من صورة الرجل، ربما لأن الأمثال اقتحمت عالمها دونما استئذان، وارتبطت بحياتها منذ الولادة حتى الممات، وشَرّحتْ مسلكياتها بطريقة شفافة. ونالت الألفاظ ودلالتها والأسلوب وميزاته اهتماماً ملحوظاً باعتبارهما وسائل حيازة، كان لابد من مناقشتها لفهم مدارات المثل النسوي. فلغة الأمثال الخاصة بالمرأة بدت قاسيةً ومكشوفةً، وكان خطابها غير متساهل أو مجامل، بحيث أفقدت هذه اللغة ثقة المرأة بنفسها، وأظهرت الفوارق الاجتماعية بين الرجل والمرأة، ورَكّزتْ بشكل ملفت للنظر على ما في شخصيتها من نقص في الدين والخلق، الأمر الذي أدى إلى تفوق الرجل عليها، فضلاً عن تصورها بأنها كائن ضعيف يحتاج على الدوام لحماية الرجل. وركزت الأمثال أكثر ما ركزت على الصورة العاطفية للمرأة، أكثر من تركيزها على الصورة العقلانية، وأظهرتها بالوضع الذي صنعه لها الرجل. وعندما استعرضتُ صورتها عبر التاريخ والحضارات المختلفة، وفي الأجناس الأدبية العربية، لاحظت أن الأمثال تتفوق على جميع هذه الأجناس، فكانت أوضح تصويراً لتاريخ المرأة وواقعها. وقد تأكد لي أن معظم الأمثال كان من صنع الرجل، وأنها تقدم كشفاً لحياتها وأوضاعها وأطوارها وكأنها تقدم سجلاً لحياتها منذ البداية وحتى النهاية. أما البحث الأخير المعنون بـ «خطاب الجنس في كتاب ألف ليلة وليلة» فقد أوضحتُ منذ البداية أن الكتاب في الأساس قصصي وروائي، وهو شرقي المنشأ، عربي البيئة، يصوّر كثيراً من المجتمعات العربية، ويشترك في قصصه عوالم عدة، وتتداخل فيه الأساطير والخرافات والخيال العلمي، إلى جانب منظومة من العادات والتقاليد ومظاهر الترف والجاه، فضلاً عن عنايته بطبقات المجتمع العربية كافة. لقد بقي النص مفتوحاً حتى القرن الثامن عشر الميلادي، فكان سلسلةً منسجمةً من الأفعال التي تؤدي جميعها إلي تصوير الجنس وأوضاعه، والسلطة ومكائدها، والحياة وتقلباتها، وعندما أقفل النص بالتدوين بقي شاهداً على مايتمتع به القاص الشعبي من حرية في التعبير. وقد لاحظتُ أن الجنس يشمل معظم صفحات الكتاب، وله خطاب يقوم على فكرة أن المرأة هي أساس الخيانة والمكر، وهي ناقصة عقلا ودينا، وحياتها تقوم علي الجنس الذي لا يعرف الحياد أو المراوغة أو التستر، وقد يصل إلي حد الإنفلات الجنسي والفوضي، بدليل أن معظم القصص جاءت متساهلةً مع الأخلاق.
وربما أرادت شهر زاد من خلال إقحام الجنس في خطابها السيطرة على عواطف الملك شهريار وتحويله إلي رجل قادر على أن يسمو على جراحه. لذلك كانت تقص عليه حكايات لا تضبطها ضوابط أخلاقية، لتنقله من حالة الشقاء التي يعيشها إلي صاحب سلطة رُدَّ إليه اعتباره. ولأن الجنس كان مفتاح علاج شهريار، مثلما كان مأساته، فقد أرادت شهرزاد استعراض جميع أنواع النساء علي مسامعه، لتتمكن من السيطرة على عواطفه، وتنشيط تخيلاته، وتحويل تفكيره إلى رغبات جنسية، وإقناعه بأن النساء لسن كلهن مثل امرأته الخائنة. ويختم العمد مقدمته بقوله: أستطيع القول بأن منهجي في هذه الأبحاث لم يكن متشابهاً، إلا من حيث كونه معنياً بالتحليل البنائي والاهتمام بالمعاني والأسلوب واللغة. وكنت أعتني بجمع مادة البحث، وأقوم بالاستشهاد بها، وتعيين مواقعها في المظان والمصادر المختلفة.
الشعر النبطي الأردني
في إطار جمع وتحليل الشعر النبطي الأردني تطالعنا المكتبة الأردنية بكتابين صدرا عام 2010، وقد استطاع صاحب كل كتاب أن يقدم الجديد في المجال. الأول هو الطبعة الأولى لكتاب علي عبيد الساعي بعنوان «من روائع الشعر النبطي» عن سلسلة إبداعات رقم 60 الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية. والكتاب يقع في 137 صفحة من القطع الصغير يضم مجموعة مميزة من روائع الشعر النبطي إلى جانب مجموعة اختارها المؤلف لتضم نماذج من الشعر النبطي لبعض الشعراء الأردنيين. وقدم الكتاب الدكتور محمود رمضان الجبور الذى سجل رؤية علمية للأدب الشعبي وأهميته، مشيراً إلى أن النماذج الواردة بالكتاب تُعد من عيون الشعر البدوي، ويصح أن يٌطلق عليها «معلقات الشعر البدوي»، وقد أطلق السلف من أبناء البادية على بعضها مصطلح «شيخات القصيد»، وهم مجمعون على قيمتها الفنية والقيمة وإن اختلفوا في تحديدها وعددها، اختلاف النقاد العرب حول المعلقات، كما أنهم لم يحددوا المعيار الذي اعتمدوه في تقييمها، غير أن الناظر في هذه القصائد لا يعدم أن يلحظ ملحظاً بارزاً فيها، ذلك أنها تتناول منظومة القيم والأخلاقيات التي يعتد بها البدوي ويحاول جاهداً الحفاظ عليها وتعليمها لأبنائه، وهي خلو من الغزل بنوعيه العذري والصريح.

وقد احتوى القسم الأول من الكتاب عشرين قصيدة لسبعة عشر شاعر من شعراء العرب على النحو التالي:
قصيدة «لي بنت عم ما مشت درب الادناس» لشرعان بن فهيد بن ارمال الشمري، والنصايح (شيخة القصيد الأولى) لمحمد حسين الدسم الدوامي العنزي، و«قم يا فريد» لمنصور عزام، و«يا مالك» للشريف بركات الحسيني، و«أيامنا والليالي» لبديوي الوقداني، و«يامحلا الفنجال» لراكان بن فلاح بن حثيلين العجمي، و«ياعيال» لسويدان الحلامي، و«مناظرة بين الجمل و(الطرمبيل) لأحمد عطية الغامدي، و«يابجاد» لغانم اللميع، و«عديت روس مشمرخات الشواهيق» لمريبد العدواني العنزي، و«الله يالمطلوب» (شيخة القصيدة الثانية) لمقحم الصقري، و«لاخاب ظني بالرفيق الموالي» لمحمد بن أحمد السديري، و«الخلوج» لمحمد عبد الله العوني، وثلاث قصائد (القهوة ، فكرت بالدنيا، الصبر محمود العواقب) لمحمد عبدالله القاضي، و«يا الله باللي كل حي يسالك» لمحمد ابن عون، و»يا راكب» لمسعود عبد إبن هذال، و»قصيدتا» (يا موقدين النار، ونيت ونه من سرا الليل) لمشعان بن هذال. وتعرض القصائد للعديد من القيم التي يعكسها هؤلاء الشعراء العظام، فتكشف قصيدة النصايح لمحمد العنزي عن العديد منها:
يا خوي لك عندي وصاة مصيبة                                ترى وصاتي تلمس العقل وتصيبه
ترى وصاة أخوك ما به معيبه                          لا صار أخوك مكمل العقل ومنيبه
أخاف تموت ولا ذرا تلتجي به                                  توزي لضيقات الدروب الضنابيب
حيث الليالي ما تعلم بغيبه                               ولا يعلم إلا صاحب العلم بالغيب
وقد أفرد المؤلف ثلاث قصائد للشاعر محمد القاضي الذي يتغزل في وصف القهوة العربية:
دنيت له من غالي البن مالاق                           بالكف ناقيها عن العسف منسوق
احمس ثلاث يا نديمي على ساق                            ريحه على جمر الغضا يفضح السوق
اياك والنيه وبالك والاحراق                          واصحى تصير بحمسة البن مطفوق
ثم يتألق القاضي في قصيدته «الصبر محمود العواقب» التي يبدأها بتلك الأبيات:
الصبر محمود العواقب أفعاله                            والعقل أشرف ما تحلت به الحال
والصمت به سر سعد من يناله                                  والهذر به شر وشوم وغربال
حقيقة الأمر لقد وفق المؤلف في اختيار عيون من الشعر النبطي الممتعة التي قد تعيد للأجيال الحالية روعة هذا الفن، ومن ثم فقد حاول المؤلف أن يقدم لنا ما استطاع جمعه من بعض نماذج الشعر النبطي الأردني، ويشير لهذه النقطة بقوله «.. ورأيت أن يكون للشعراء الأردنيين نصيب في هذا الديوان، لأنهم حرموا من طباعة نتاجهم الشعري أو الترويج له، إلا ما ورد على ألسنة الرواة وسيجد القارئ الكريم في نهاية الديوان ست قصائد لشعراء أردنيين قدامى وإنني إذ أقدمهم للقارئ الأردني أعتذر له عن عدم قدرتي على البحث عمن سواهم بسبب المرض وعدم القدرة على السفر الذي يتطلبه البحث عن الرواة، رغم أن هنالك من يستحق مثل الشيخ حديثه الخريشا والشيخ سعود المصبحين». أما القصائد الست التي اختارها المؤلف للشعراء الأردنيين فهي قصيدة فلسطين لعبيد الساعي الخالدي، والبارحة يوم الخلايق نياما لنمر العدوان، ووالله ثم والله دين بالاشهاد لمحمد الغدير الخلايلة، والصلوات الخمس لمحمد الغدير، والمهرة لرثعان ابن ماضي، والتتن لسليمان الماضي. وسنجد بين نصوص الشعر النبطي الأردني ما يتصل بأحداث سياسية على نحو ما نجده في قصيدة فلسطين التي قالها الساعي في إحدى معارك القدس بين العرب واليهود سنة 1948. أما الشيخ نمر العدوان فيستدعي الكثير من الشجون في قصيدته «البارحة يوم الخلايق نياما»، فيقول:
البارحة يوم الخلايق نياما                     بيحث من كثر البكا كل مكنون
قمت أتوجد وأنثر الما علاما                   من موق عينٍ دمعها كان مخزون
وعلى حين يسرد المؤلف جانبا من حياة الشاعر محمد الخلايله، فيخبرنا بأنه توفي عن عمر لم يتجاوز الست والأربعين عاماً على إثر مرض أخطأ من وصف له العلاج، نجد قصيدة هذا الشاعر كما لوكان يصف مرضه قبل موته:
والله ثم والله دين بالاشهاد                     وحق الرسول وحق رب البرية
اني عليل ولا تهنيت بوساد                    ولي علة جوى الضماير خفية
أما الشاعر محمد الغدير فقد سجل له المؤلف قصيدة أعجبت أهل مدينة السلط الذين جمعوا لصاحب القصيدة دية ثلاثة رجال، وكان قد ذهب للسلط يطلب نصف دية رجل كان صاحبنا قد كسر أحد أطرافه، تقول مطلع القصيدة:
أول مبتدا الله أكبر                             وذكر الله كما مسك وعنبر
على ما دبر المعبود نصبر                            حمدنا الله على فعله وفنه
وعلى هذا النحو يجول بنا المؤلف في قصائد يحكي قصة بعضها حيناً، ويحكي عن سيرة صاحبها حيناً آخر. وإذا كان المؤلف قد أضناه التعب من البحث والسفر لأجل جمع هذه النصوص، فهي دعوة لجيل الباحثين من الشباب الأردنيين ليستكملوا الطريق لتوثيق تراثهم الشعبي النبطي الذي يليق به أن ينشر في عمل ضخم. أما الكتاب الثاني حول الشعر النبطي الذي صدر عام 2010 أيضاً فقد كان بعنوان «ألوان من الشعر النبطي في الأردن وما حوله» لمصطفى الخشمان وهو من نشر المؤلف بعمان، ويقع في 172 صفحة من القطع المتوسط. والكتاب هو الجزء الثاني للعنوان نفسه، وللأسف لم نتمكن من العثور على الجزء الأول الذي عرض فيه المؤلف لعلاقة هذه الألوان بالأنباط أجدادنا القدماء وكيف استمرت حتى هذا التاريخ. أما هذا الجزء فيعرض فيه المؤلف لألوان الشعر النبطي الدارج في منطقة الأردن وما حولها وهي: الجهيني والسامر والعرضه والجوفية وأبو رشيده والأهازيج والحداء.

وإذا كان كتاب علي الساعي قد ركز على الشعراء من أعلام الشعر النبطي فإن الخشمان قد ركز هنا على الكشف عن ألوان الشعر النبطي وتحليلها، وتوضيح الرقص الفولكلوري المرافق لكل لون، مع شرح طريقة الرقص والإيقاع. وتبقى مسألة جمع مادة الشعر النبطي أيضاً من أصعب الأعمال الميدانية التي تتطلب الوصول إلى الثقاة الحافظين لهذا النوع من الشعر مع اختلاف لهجاتهم وصعوبة فهم بعض الكلمات التراثية التي قل أو بطل استعمالها. ويبدأ المؤلف باستعراض شعر الهجيني وهو شعر شعبي على بحر الوزن المخلع البسيط، وهو من أكثر أنواع الغناء النبطي شيوعاً بالمملكة الأردنية، ويعرفه الشعب الأردني بكافة فئاته، بل ويستطيع أي شخص أن ينظم منه بيتاً أو بيتين حسب العاطفة التي تتملكه. ويغنى بألحان متنوعة حسب المناسبات والأوقات والأمكنة، وترافقه العود وبعض الآلات الموسيقية كالربابة. ويستعرض المؤلف أصل التسمية، وموطن الهجيني. أما موضوعات الهجيني فتتناول الكرم والطيب والحنين للأماكن:
الزين كله برام الله                                     واللي ورا القدس من غاد
وغزل المرأة بالرجل:
يا ولد يا بو خيالا زين                                يا صقر وارد على المية
وكذا يتناول الأمثال والحكم الدارجة والشكوى وقطع الأول والمداعبات:
حُطي على النار يا جده                                       حطي على النار عيدان
ربي حسيبا على النسوان                                      هرج القفا ما يخلنه
لو جلالات يالكاسه                                    رايق تقول دم غزلان
لو حلالات يالكاسه                                    شايا من الهند سيلاني
كما يستعرض المؤلف أنواع الهجيني التراثي المحفوظ في الذاكرة الجمعية وهو مجهول المؤلف، والهجيني الحديث الذي نظم في عهد القراءة والكتابة وأتيح له أن يدون. كما يتناول عرار شاعر الأردن الشهير، منتهياً بمناقشة بعض التعريفات الخاصة بهذا الفن وضبط مصطلحاته. أما السامر فيعرفها المؤلف بأنها الرقصة الرئيسية التي تسرق الوقت من ساعات الليل الرتيبة في البادية والريف، كما يطلق الإسم على لون من الغناء الشعبي ترافقه رقصة لمجموعة من الرجال تقف صفاً واحداً مستقيماً أو يشكلون نصف دائرة، ويطلق على الغناء اسم البدع والرقصة سحجة او رزعة. ثم يصف المؤلف المراحل الثلاث لرقصة السامر وما يصاحبها من شعر مغنى مستعرضاً دخول الحاشي (المرأة المشاركة في الرقص أمام الرجال) والتي قد تتخفى أو يحل محلها رجل متخف بلباس امرأة. وهي احتفالية تقوم على الحركة والموسيقى والشعر والتصفيق.. أما النص الشعري فهو ذو قالب لحني على وزن واحد لكل الألحان تختلف مثلها مثل الهجيني تبعاً لدمج أو مد الحروف. ومعظم أغاني السامر قصيرة تتألف من بيتين في أغلب الحالات وأحياناً يغنى بيت واحد ويرددها الشاعر الذي يعرف بالبّداع، والأشعار القصيرة تكون وافية المعنى تشفي غليل البّداع فيما يريد أن يوصله للمحبوب من عشق أو وصف أو فخر:
يا ابنيه ملا انت ابنيه                                  لو فيكي من الطول شوية
لحطك بخريج الذلول                                  والقي فيك الدوية
ثم ينتقل المؤلف للون آخر من الشعر النبطي الراقص وهو «العرضه» إحدى الرقصات الحربية التي يصاحبها السيف ولها مراسم معروفة في الأردن والخليج العربي، وارتبط بها ما يعرف بأغاني العرضة، وللعرضة ثلاثة أقسام هي: عرضة الجيش- عرضة الخيل- العرضة العامة، ويحاول المؤلف في هذا الجزء أن يوضح الفرق بين العرضة والجوفية حيث يقع الكثير في الخلط بينهما:
ديرتي بالشرف والعز مبنية                   صرحها في سنام المجد بانيته
وادي في القضا يسمى باهليه                  من الأوايل من العدوان حاميته
أما الجوفية فالاسم يدل على استعمالها الواسع بمنطقة الجوف بالأردن، وتختلف عن العرضة في وزنها ولحنها ورقصتها، على حين يشير المؤلف إلى أن الشعر النبطي المسمى بـ (أبو رشيده) لايُعرف أصل تسميته.
ويختتم المؤلف كتابه بفصل حول الأهازيج والحداء، والأهزوجة هي نشيد شعبي في لغة العامة ينشده الناس في مناسبات متنوعة كالحروب، والاستعراض، الاستقبال، التوديع..إلخ. ومن أبرز خصائص الأهزوجة التلقائية والوضوح وقد كان للأهزوجة دور كبير في تعميق المفاهيم الوطنية، وقد تكون الأهزوجة قصيرة وهي الأكثر شيوعاً أو طويلة ذات مقدمة تمهيدية، ومن أمثلة الأهازيج النسائية التي قيلت لتشجيع المحاربين وذكرها الدوسري في كتابه أهزوجة الشريفة عمشاء بنت ناصر بن غالب الشريف تحرض على قتل مصلح البعاع الذي قتل عمها:
من يقطع الفرجة على البعاع                          يصــير للشـيخة حليل
يا ريت ما رمحه يجي منعاج                         يقلط إلى هاب الذليل
أما اللون الأخير من الشعر النبطي الذي عرض له المؤلف فهو «الحدادي» والحداء هو غناء، والغناء الذي يغنيه الحادي قد يكون من ألوان مختلفة، ومعظم الحداء من ألوان الهزج وقد فصل مصطفى الخشمان في العلاقة بين الأهازيج والحداء موضحاً بالعديد من الأمثلة لينتهي ببعض النتائج المهمة التي توصل لها في خلاصة دراسته.

ألفاظ وأشعار كركيه
وفي مجال الأدب الشعبي والاحتفاء بالشعر الشعبي الأردني صدر عام 2009 كتاب ألفاظ وأشعار كركيه لفراس دميثان المجالي عن إصدارات وزارة الثقافة 2009، والكتاب نشر في إطار الكرك مدينة الثقافة الأردنية، ويحوي 219 صفحة مكون من مقدمة وستة فصول اشتملت تصنيفات متعددة للألفاظ الشعبية والأشعار النبطية المتداولة في مدينة الكرك حاضرة الصحراء كما يصفها المؤلف، والتي شهدت تغيرات في حياتها ومرت عليها أحداث جسام مما زاد في شهرتها وسمعتها.
احتوى الفصل الأول من الكتاب على الألفاظ المرتبطة بالعشق الذي يسبق الخطبة، والزواج، والحبل والولادة. وقد قدم المؤلف أمام كل لفظ معناه في إطاره الثقافي، ومن الألفاظ التي وردت في هذا الباب: مرعية: فتاة على حساب أحد أو مخطوبة- طيار: غير مقيد أو غير مرتبط بفتاة- الحلية: ذبح شاة بعد زفاف العروسين في الليل- لاقطة: بداية الحمل. أما الفصل الثاني فقد اشتمل ألفاظ اللباس، والحلي والجواهر، وألفاظ الوصف، والمدح، والذم والسب. ومنها: ضحاك الحجاج: من يُسر لرؤية الضيوف- المخرفن: كثير الكلام. أما الفصل الثالث فقد اشتمل على ألفاظ متصلة بموضوعات متعددة مثل: الألفاظ التي تتعلق بالمسكن الشعبي، وبيت الشعر، والقهوة، والطعام، والماء، والنار، والصيد، والأسلحة، والفلك، والقضاء. وخلال هذا الفصل نتعرف على الكثير من الألفاظ، فالقنطرة هي ما يرتكز عليها السقف، والحميل هي مخلفات القهوة السابقة في الدلة، والمليحية عبارة عن لبن مع شراب اللحم، والنبوت هو العصا الكبيرة، والمدمي هو من ارتكب جريمة قتل. ثم ينتقل المؤلف في الباب الرابع لرصد ألفاظ الزراعة، والحليب ومشتقاته، ونباتات البقل، وأشجار الطب، والمحاصيل الحقلية، والنباتات البرية. ومن ثم أدخلنا المجالي في عالم جديد من الألفاظ ذات الدلالات المحلية لنعرف أن الكابوسة هي قطعة خشبية يتكئ عليها الحراث أثناء العمل، والحثيمة هي حليب اللبا، واللبا حليب الشاة، والقطف نبات يستعمل للحطب. ثم خصص الباب الخامس لشرح الألفاظ المرتبطة بالحيوانات، مثل الألفاظ التي تتعلق بحيوانات العمل، والمواشي، والكلاب، والدواجن، والخيل. ومن ثم نجد أمن الخلوج هي الناقة الوالدة حديثاً، والعوسية هي نعجة وجهها بني وليتها كبيرة، والمقاقاة هو صوت الديك، والمحسة هي مشط حديدي دقيق لتنظيف الفرس. أما الفصل السادس والأخير من هذا القسم من الكتاب فقد خصصه المؤلف لألفاظ الحرف والمهن، ومايتعلق بالغزل والنسيج، والخياطة، والمقاييس والأوزان، والعقود. ومن خلاله نتعرف على اللاحوق وهو مساعد راعي الغنم، والكرداش وهي أداة لتنعيم الصوف والشعر، والحفنة هي ما يملأ الكف، والقطمة نصف الحفنة. وإلى هنا ينتهي حديث المؤلف حول الألفاظ الكركية والتي نقدر له حرصه على جمعها وتوثيقها، غير أن تحفظنا الوحيد على هذا القسم هو أن المؤلف لم يرتب الألفاظ ترتيباً هجائياً حتى ييسر على القارئ الوصول لكل لفظة بسهولة، وكان من الممكن أن يصنف هذا القسم تصنيفاً هجائياً موحداً حيث أن التصنيفات الفرعية اشتملت على مجموعات صغيرة من الألفاظ وصل بعضها إلى أقل من عشرة ألفاظ.أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه المؤلف لعرض نماذج من الشعر النبطي الكركي: الشروقي- الهجيني- الحداء. لنكتشف خلاله أن مؤلفنا هو واحد من شعراء النبط، فبدأ بعرض  لبعض مبدعي الشعر النبطي مثل غنام المزارقة البطوش، وسعود المجالي، وعبدالله العكشة، وسالم أبو الكباير، ومصطفى السكران، ودميثان رفيف المجالي، ويوسف ربيقان المجالي، ودليوان المجالي،  وخازر موسى المجالي، وفراس دميثان المجالي(المؤلف)، ومحمد فناطل الحجايا، كما خصص المؤلف قسماً مستقلاً لنماذج من شعر الهجيني الخاص بعائلته وأقربائه مثل معالي صالح المجالي، ودميثان المجالي، وحابس المجالي، وعصر رفيقان. واختتم المؤلف كتابه ببعض الأبيات من قصيدة له من شعر الهجيني:
دنيت حبري مع الأوراق                              وأنظم اشعاراً للهجيني
سر يا قلم وانصح العشاق
اللي بهواهم غشيمين
هذا الهوى ماكر بواق                         يخدع القلوب المحبين
وش فود عشقاً بلا ميثاق                              بالعمر مايعيش يومين

معجم التراث والألفاظ الشعبية
وينقلنا الملف الأردني لنشاط علمي جديد في مجال المعاجم والموسوعات حيث صدر عام 2012 معجم التراث والألفاظ الشعبية، لأحمد سليم الزول عن وزارة الثقافة بمناسبة اختيار مادبا مدينة الثقافة الأردنية.

ومن الوهلة الأولى نجدنا أمام عمل متخصص ومحترف في المجال، له أطر منهجية محددة، حيث أعلن المؤلف عن أنه صنف المعجم موضوعياً، ورتب كل موضوع هجائياً، ثم وثق المصادر التي اعتمد عليها سواء المكتبية أو الميدانية، وإضافة ألفاظ توضيحية لدلالة الكلمة ومعناها، وجمع بعض الألفاظ تحت مسمى يجمعها، فضلاً عن تزويد المعجم بصور ورسومات توضيحية. كما قدم ثبتا بالألفاظ الشعبية ومقابلها الفصيح، فضلاً عن أسماء الإشارة والضمائر وأحرف العطف والجر. وقد صنف المؤلف معجمه لإحدى وعشرين فصلاً على النحو التالي:
1) الإنسان والصفات المتعلقة به.
2) الصفات الخُلقية والخلقية وألفاظ الطلب والمعاملات والإشارة.
3) العبادات والمعتقدات والأساطير.
4) العادات والتقاليد والألفاظ المتعلقة بالزواج والأسرة.
5) العلاقات الاجتماعية وتقاليد التكافل الاجتماعي.
6) اللباس وصفاته وأنواعه والألفاظ المرتبطة به.
7) البيوت ومحتوياتها ومكونات وأجزاء بيت الشعر والبيت الريفي والحضري.
8) أجزاء القرية والمضارب والبساتين وصفات الأرض وما يتعلّق بها.
9) الألعاب الشعبية والألفاظ والمصطلحات والمسميات المتعلقة بها.
10) القضاء العشائري والألفاظ المتعلقة به.
11) القهوة في التراث الشعبي.
12) أدوات الطعام والشراب والألفاظ والمصطلحات  المتعلقة بهما.
13) المأكولات الشعبية  الحليب ومشتقاته والألفاظ والمصطلحات والأدوات المتعلقة بها.
14) التدفئة والإضاءة وأدواتهما.
15) الطب الشعبي وأنواع الأمراض والألفاظ والأدوات المتعلقة بهما.
16) الفنون والأغاني والأهازيج الشعبية والألفاظ والمصطلحات والأدوات المتعلقة بها.
17) الحيوانات والألفاظ والمصطلحات والأدوات المتعلقة بها.
18) الفصول الأربعة ومواسم الحصاد والنباتات ومايتعلق بها من ألفاظ ومصطلحات وأدوات.
19) وسائل النقل والتحميل.
20) العملة والنقود والأصوات والألوان.
21) معجم الألفاظ التركية التي مازال بعضها مستعملاً في الأوساط الشعبية.
وعلى هذا النحو نجدنا أمام مئات الألفاظ الشعبية التي تعكس الثقافة الأردنية، وليس هناك حدود لعدد الكلمات التي تشرح اللفظة، فمثلاً قد يشرح المؤلف كلمة «صدّارات» بأنهن النساء اللواتي أحضرن الماء في القرب أو الراويات، أما كلمة «وَنَس» فهي نوع من أنواع الأرواح، أو الجن الذي يظهر في بعض الأماكن المهجورة، أو الخالية من الناس، أو في الأماكن التي قتل فيها أحد الأشخاص باسمه.. ويستطرد المؤلف في ذكر هيئة هذا الجن والفرق بينه وبين «المكتول» وهو نوع آخر، ووقت ظهوره وعلاقته بالإنسان..إلخ. وسنجد في المعجم العديد من الألفاظ التي فصل المؤلف في شرحها، كحديثه عن لباس المرأة، وجهاز العروس، والقضاء البدوي. وقد أشار المؤلف في مقدمته أن المعجم يحاول أن يجمع في طبعته الأولى بعض الألفاظ والمعتقدات الشعبية التي تعارفت عليها معظم المجتمعات العربية، ومن ثم نجد بعض الألفاظ التي قد تكون خارج السياق الأردني، مثل «عيد شم النسيم» الذي يصفه المؤلف بأنه احتفالات يقوم بها أهل مصر في فصل الربيع، وهي منقولة عن الفرس حيث كانوا يحتفلون بعيد النيروز. وعند تصفحنا للمعجم سنجد بعض المواد عرضها المؤلف من خلال بعض النماذج فقط دون وصف مفصل لطريقة أدائها، ومن ذلك ما أورده حول أغاني السامر، التي وصفها المؤلف بأنها الأغاني التي تقام ليلة العرس، وتؤدى بطريقة جماعية، ثم استطرد في تسجيل عشرات الأبيات التي تٌغنى في هذا السياق، والأمر نفسه عندما عرض لأغاني الطهور. أما أغاني الشوباش فقد اقتصر تعريفها فقط على أنها الأغاني التي تنتهي بلفظ (واو). ورغم هذا المنهج الذي التزمه المؤلف في التصنيف والتوثيق، فإننا نجد بعض الفصول الفرعية التي نتصور أنها تحتاج لا ستكمال، مثل الجزء الخاص بالآلات الموسيقية الذي اقتصر فقط على آلات: جهاز الحاكي (الفونوغراف)- المزمار- اليرغول. يبقى الإشارة أن المؤلف حرص على توثيق مادته المرجعية وهناك بعض المراجع التي اعتمد عليها بشكل أساسي منها: قرية محي للجنة إحياء التراث، والطفل في الحياة الشعبية الأردنية لنايف النوايسة، والقضاء العشائري لمحمد أبو حسان، ودراسات في عادات وتقاليد المجتمع الأردني لسليمان عبيدات. وقد أنهى المؤلف موسوعته بمجموعة صور للعناصر المادية التي وردت بالموسوعة مثل المباني الطينية، والجرن، والمهباش، وفناجين القهوة، والأدوات المنزلية، والحلي، وأدوات الزراعة..إلخ.
التنوع الثقافي في الأردن
هذا الكتاب يأتي في إطار نشاط وزارة الثقافة الأردنية في توثيق الذاكرة الثقافية في المملكة، وهو بعنوان « التنوع الثقافي في الأردن: النسيج الاجتماعي، والتشريعات، والفعاليات الثقافية، تحرير حكمت النوايسة، وقد صدرت طبعته الأولى عن مديرية التراث بالوزارة عام 2012 في 178 صفحة.

والكتاب يحوي مجموعة دراسات متنوعة شارك فيها نخبة من المتخصصين في رصد آفاق التنوع الثقافي في الأردن، وقد امتزجت فيه التجارب المحلية والعربية في أجواء من القبول الرحب كما يشير محرر الكتاب في المقدمة. وقد احتوى الكتاب خمسة موضوعات أساسية بدأت بدراسة احمد راشد حول التشريعات والاتفاقيات الدولية والمشاريع الثقافية. تناول فيها النصوص الدستورية الضامنة لحرية التعبير الثقافي في الأردن، وتجلياتها من خلال الواقع العملي، مع الإشارة إلى دور وزارة الثقافة في تعزيز أشكال التعبير الثقافي في المملكة. أما الدراسة الثانية فهي لمفلح العدواني بعنوان «التنوع الثقافي والنسيج الاجتماعي في الأردن» تناول مكونات المجتمع الأردني الإثنية والدينية والاجتماعية، وصورة القبول التي تسير عليها الحياة في الأردن، معززة بالفعاليات، والمؤسسات المعبرة عن هذا القبول. وفي البحث الثالث تناول غسان طنش نموذج الجمعيات والهيئات الثقافية التطوعية المسجلة بموجب قانون الجمعيات النافذ، حيث أبرز تنوع الهيئات والمؤسسات الثقافية الأردنية، وتوزعها الكمي والنوعي، وتمثيلها لشرائح المجتمع الأردني كافة، دون تميز أو تحيز، وانتشارها في بادية الأردن وقراه ومدنه، وفق إحصائيات دقيقة وحديثة، تعبر عن هذه الهيئات والمؤسسات. كما تناول عبد الكريم العمري موضوع الإعلام وتنوع أشكال التعبير الثقافي في المملكة الأردنية الهاشمية: الأعمال التلفزيونية نموذجاً، حيث تناول البرامج والأعمال التليفزيونية التي ترصد الفعاليات الثقافية، وتوثق للعادات والتقاليد والتعابير الثقافية في المجتمع الأردني. ويختتم الكتاب بدراسة أحمد الطراونة حول الفعاليات الثقافية من خلال الإعلام المقروء: جريدة الرأي نموذجاً، حيث رصد الفعاليات الثقافية المعبرة عن هذا التنوع والأخبار الصحفية التي غطتها في الفترة من 2007 إلى 2010 وعكس البحث ثراء الحراك الثقافي الأردني وغناه بالتنوع الثقافي والحضاري للفعاليات الثقافية خلال هذه الفترة. ويختم حكمة النوايسة مقدمة هذا الكتاب بقوله: هذا جهد نفتح فيه الأبواب لتوثيق الذاكرة الثقافية الأردنية، وإبراز الوجه الثقافي المشرق في الثقافة الوطنية الأردنية، بما يؤهلها أن تكون ثقافة التنوع الاحترام والقبول، وأن تشكل نموذجاً حقيقياً للثقافة التي تحترم وتعزز تنوع أشكال التعبير الثقافي، وتفتح المجال أمام جميع مكونات المجتمع لتعبر عن ذاتها وخياراتها الاجتماعية والثقافية. ونحن إذ نتفق مع المحرر في تقييمه لهذه الدراسات المهمة فإننا نأمل أن يقدم الجزء التالي من مشروعه تطبيقات المملكة الأردنية في إطار اتفاقية اليونسكو حول حماية وتعزيز تنوع اشكال التعبير الثقافي، والتي وقعت عليها الأردن عام 2007. حيث أن الدراسات الخمس التي نشرت بهذا الكتاب تعد بحق أساساً يمكن البناء عليه لتطبيق هذه الاتفاقية.

دراسات وتجارب في التاريخ الشفوي
صدر في 2011 عن مركز الأردن الجديد للدراسات، كتاب بعنوان: التاريخ الشفوي؛ دراسات وتجارب، إشراف وتقديم هاني الحوراني. والكتاب يقع في 206 صفحة يضم مختارات من المساهمات التي قدمت في المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ الأردن الاجتماعي الذي عُقد في 16 و17 أغسطس 2005، بمشاركة باحثين وأكاديميين من الأردن وفلسطين والولايات المتحدة الأميريكية، وكرس المؤتمر أعماله للتعريف بالتاريخ الشفوي وأبعاده المختلفة، النظرية والعملية، وكذلك بالتجارب العربية، ولاسيما الفلسطينية في مجال تدوين وحفظ الروايات الشفوية، وإلي جانب ذلك فقد تضمن المؤتمر تجارب وشهادات من الأردن للعديد من المؤرخين والصحفيين والأنثروبولوجيين والأدباء الذين لجأوا إلي مصادر شفوية في أعمالهم واستخدام تقنيات التاريخ الشفوي،
ويضم الكتاب أيضاً مختارات من أعمال أول دورة تدريبية تقام في الأردن حول « تقنيات ومهارات التاريخ الشفوي»، والتي عقدت ما بين 3 و7 شباط/ فبراير2006، بمشاركة واسعة من المتدربين والمتدربات الذين يتوزع إنتماؤهم بين مؤسسات متنوعة، أكاديمية وإعلامية ونسائية وأهلية، وقد تركز التدريب علي توثيق وتدوين تاريخ الحركة النسائية في الأردن والشخصيات النسوية القيادية. الكتاب مقسم لبابين يبدأ بمقدمة مختصرة ودقيقة لهاني الحوراني بعنوان: لماذا التاريخ الشفوي الآن؟!.أما الباب الأول فيبدأ بمساهمتين للخبير الأميركي المعروف توماس ركس، الأولى بعنوان: التاريخ الشفوي. ما هو؟، والثانية يتبنى فيها مقولة جون إتش. آرنولد: التاريخ هو عملية وجدل ويتكون من قصص حقيقية حول الماضي. يتلوها دراسة بعنوان الأبعاد النظرية والعملية لتطبيقات التاريخ الشفوي لسونيا النمر. ثم دراسة صالح عبد الجواد حول خصوصية الحالة الفلسطينية: الضرورة والمشاكل والمصداقية. كما يتعرض رياض شاهين للصعوبات التي تواجه تطبيقات التاريخ الشفوي وطرق تجاوزها، وينتقل الكتاب لدراسة قضية أثارت جدلاً واسعاً في الماضي وتأخذ نفس الطابع الجدلي الآن، وهي المنظور النسوي للتاريخ الشفوي بين النظرية والتطبيق والذي عالجته فيحاء عبد الهادي. أما عادل يحيى فقد اختتم هذا الباب بدراسة حول منهج وتقنيات البحث في التاريخ الشفوي. أما الباب الثاني، فقد احتوى على العديد من الشهادات والتجارب المحلية، بدأت بشهادة المرحوم سليمان الموسي بعنوان «تجربتي الشخصية في توظيف تقنيات التاريخ الشفوي»، وشهادة روان وديما الضامن حول التاريخ كما يراه الأطفال: ملاحظات مستقاة من دراسات ميدانية. ثم شهادة فاروق جرار حول تجربة مراكز الدراسات والأبحاث في مجال التوثيق التاريخي. أما محمد خريسات فقد سجل في شهادته موقع تقنيات التاريخ الشفهي في مجال توثيق التاريخ في الأردن. على حين تناول عبد العزيز محمود في شهادته مكانة التحقيق الميداني في دراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي، كما سجلت ملك التل تجربتها في كتابة التاريخ الشفاهي، وعنون محمود الذيودي شهادته باسم «دراما من دراما»، وسجل كايد هاشم تجربته حول تطبيقات التاريخ الشفهي في كتابة التراجم الأردنية. واختتمت سلسلة التجارب بتجربة هاني العمد حول تقنيات التاريخ الشفهي.
https://alrai.com/article/115847/الرأي الثقافي/ندوة-لمركز-الأردن-الجديد-تناقش-التاريخ-الشفوي-ودراسات-المرأة

تاريخ التأريخ الشفويّ..تطور وتاريخ المفهوم
آخر تحديث 21 أبريل , 2022
مهام التاريخ الشفويّ
يُعدّ التاريخ الشفويّ مكمّلاً للتاريخ المكتوب بما يحمله من تصحيحات مباشرة لأحداث تحتاج إلى مصداقيّة في روايتها، وبما يفسح من مجال لاستكمال الرؤية المعرفية التاريخيّة من خلال ما يضيفه من شهادات مهمَّشة أو منسيّة، وعبر توسيعه لحقول البحث التاريخيّ، ليشمل طبقات اجتماعيّة مختلفة ومواضيع كانت تطرح فقط في أطر العلوم الأخرى. بالمقابل، للتاريخ الشفويّ عثراته أيضاً، إذ لا بدّ من التأكّد من أنّ رواية الشاهد أو المشارك في الحدث الذي يروي أحداثه، قد نُقلَت بأمانة أو أنه لم يخطئ في بعض النقاط أو الملاحظات. ومن هنا أهميّة التاريخ الشفويّ بتكامله مع التاريخ النصيّ. لكن هل يمكن فعلاً نقل الرواية أو الحدث دون تشويههما، أي دون نقلهما في صيغة مشخصنة أو من وجهة نظر الراوي على الأقل؟ هنا تكمن إشكاليّة التاريخ الشفويّ تحديداً.
هذه الإشكاليّة طرحها مفكّرون وفلاسفة كثيرون سابقاً، وخاصة كانط، إذ أشار إلى أن الشاهد يميل دائماً إلى إخضاع روايته للماضي وفق ذوقه أو أفكاره الشخصيّة. من هنا نشأت الفكرة المبدعة التي اقترحها غي تويلييهGuy Thuillier منذ العام 1976 والتي تقول باستبدال مفهوم “التاريخ الشفويّ” المستخدم في الولايات المتحدة منذ بدء العمل به في جامعتي شيكاغو وكولومبيا، بمفهوم “الأرشيف الشفويّ”، وذلك للتخفيف من حدة هذه الإشكالية في تحريف التاريخ المرويّ عبر رواته، والارتكاز بالتالي على الوثيقة التي يمكن العمل عليها من الباحثين لتوطين الخلاصة التاريخيّة المستقاة منها، اعتماداً على الدراسة المقارنة لها، وبالتالي توفير الوسائل لتناول أكثر موضوعيّة للماضي. وقد استلهمت هذه الفكرة ووضعت لها الإطار النظري والتطبيقي دومينيك شنابر D. Schnapper، في إطار الهيئة الفرنسية للتاريخ والأمن المجتمعيComité d’histoire de la Sécurité sociale. عملت بعد ذلك فلورانس ديكامبF. Descamps وغيرها على بلورة وتطوير هذه الأعمال. تمثّل هذه المبادئ اليوم معلماً أساسياً لتطوير الأبحاث والمناهج في التوثيق الشفويّ.
حول تاريخ التأريخ الشفويّ
كان التأريخ المدوَّن في الحضارات القديمة يعتمد على مصادر متنوعة من المعلومات، ولم يكن النص المكتوب يتفوق فيها على المصادر الأخرى. فالمؤرّخ هيرودوت (484 ـ 425 ق م) اعتمد على شهادات شفويّة وشهود عيان لكتابة تاريخ الحروب الميديّة. أما ثوسيديد (470 ـ 395 ق م)، فقد طوّر منهج التأريخ بالاعتماد على الرواية الشفويّة في مقدمة كتابه حول حروب البيلوبونيز. بعد ثلاثة قرون، أعلن المؤرخ الروماني بوليب (208 ـ 126 ق م) عن تفوّق الشهادة المباشرة على المصادر النصيّة وضرورة قيام المؤرّخ ببحث “ميداني”. وقد تعمّم هذا المنهج طيلة قرون تالية مع مؤرّخي روما الجمهوريّة ثم الإمبراطوريّة، حتى نهاية القرن الرابع الميلادي تقريباً، إذ اعتمد المؤرّخون على شهادات معاصريهم، وقد شغفوا بكتابة التاريخ المباشر للفترة التي عاشوها.
في العصور الأوروبية الوسطى، تأثّرت الكتابات التاريخيّة بالبعد المسيحيّ من جهة، والتوجّهات الملكية لبناء الدول والإمارات الأوروبيّة من جهة أخرى. أدّى ذلك إلى تراجع التأريخ، فأصبح يُستخدَم في اللاهوت والحُكْم، وكان لا بدّ من إعادة اكتشاف الفلسفة الإنسانيّة، في القرن السادس عشر، ليبدأ “التاريخ” رحلته نحو المنهجيّة العلميّة.
أما تطوّر البحث التاريخي في الحضارة العربيّة فقد سار وفق مسارين، الأول، تَمثّلَ النمط التأريخي اليوناني / الروماني السابق، والآخر اعتمد بشكل أساسي على النقل عن السابقين، وقد طغت هذه الطريقة الأخيرة على الأولى لما في النمط الثقافي العربي من خصوصيّة الثقة أو تفضيل شهود العيان على المصادر المكتوبة. وهذا ما تؤكّده المقولة المأثورة: “كان الشعر علم قومٍ لم يكن لهم علمٌ أصحّ منه”. فقد كان الشعر ديواناً شفوياً للعرب يسجّل مآثرهم وأخبارهم وأيامهم وأمثالهم ومثالبهم. واستمرّت هذه الخصوصيّة للتوثيق بعد ظهور الإسلام من خلال تدوين القرآن الكريم أولاً ثم تدوين أحاديث النبي الكريم ثانياً وما تضمنه هذا التدوين من عمليات الجمع والتحليل والتحقيق والمقارنة، الأمر الذي عكس تطوّراً في الوعي بأهميّة التراث الشفوي وحفظه وتدوينه. لتصبح الرواية الشفوية أحد مصادر التوثيق التاريخي عند المؤرّخين العرب والمسلمين في نقلهم لمعارفهم وحياتهم إلى من يليهم من أجيال، وتشهد على ذلك سلسلة “العنعنات” أو الأسانيد الطويلة التي يسردها المؤرّخ قبل كتابة الخبر الذي نقله عنهم. يشترك في هذا المقام عدد كبير من المؤرّخين المسلمين، الذين اعتمدوا اعتماداً كبيراً على التأريخ الشفهي؛ فدوّنوا معظم كتاباتهم من أفواه الناس والرواة المعاصرين للاحداث، ونذكر منهم على سبيل المثال، كتّاب السير، والمعارك الإسلامية كالبلاذري، ومعاصري الحروب الصليبية كإبن منقذ في مذكّراته المسمّاة “الاعتبار”، وغالبية كتّاب الرحلات كالمقدسي، والإدريسي، وابن بطوطة، وكتّاب التاريخ العام، كالطبري، والمقريزي في سلوكه، وابن تغري بردي في كتابه “النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة”، وما دوّنه محمد ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، والأمير حيدر الشهابي في كتابه “الغرر الحسان في تواريخ أهل الزمان” ،المعروف باسم “تاريخ الأمير حيدر الشهابي”، وطنوس الشدياق في كتابه “أخبار الأعيان في جبل لبنان”، وشيخ المؤرّخين المصريين عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار في الوقائع والأخبار” المعروف باسم “تاريخ الجبرتي”[1] … الخ.
مطلع عصر النهضة
لقد فضّل بحّاثة القرن السابع عشر في أوروبا النصوص الأصليّة على الروايات العجائبيّة أو الحكايات المرويّة. مع ذلك، لم تستبعد طرائق البحث المطبّقة على النصوص القديمة الشهادات الشفويّة والمرويّات استبعاداً كاملاً. بالمقابل، رفض المؤرخون في تلك الفترة التقليد الشفويّ الذي اعتمد على النقل عن مصادر سابقة غير مؤكَّدة أو غير موثَّقة بالمقارنة أو بالإثبات التاريخيّ، والتي تكون صياغتُها على نحو “يقال إنّ” أو “لقد رُوي دائماً أن”… إلخ، فهو تقليد لم يُقبل في دراسات الباحثين بل استُهدِف بالنقد مع كلّ ما رافقه من تضليل.
ترافقت حركة إخضاع التاريخ هذه للفكر والتوثيق النصيّ والبحثيّ مع الحركة العلمانية التي تمثّلت في مأسَسَة الدولة، وهو ما ترافق مع إنشاء مؤسّسات بحثيّة وعلميّة وأكاديميّة وأرشيفيّة. كانت كافة هذه المؤسّسات الخاصة تُعنى في آن واحد بالحقوق والذاكرة والبحث التاريخيّ وتعمل في خدمة البلاط، لإبراز عظمته وتأسيس سلطة الدولة.
في مطلع القرن التاسع عشر، بدأت تظهر، كما في فرنسا وقبلها في إنكلترا، مراكز الأرشيف الوطني. وهكذا، ولدت مهنة جديدة هي مهنة المؤرشف التي تتأسّس على تأهيل علميّ أكاديميّ. مع ذلك، استمرّ المؤرّخون الرومنطيقيون المتأثّرون بالثورة الفرنسيّة بتقصّي شهادات الشهود العيان من معاصريهم. لكن لم يطل الأمر بهذه النزعة التاريخيّة الرومانسيّة، فقد عادت المدرسة الفرنسية التاريخيّة لتؤسّس هويّتها العلميّة على مناهج التاريخ التقليديّة، التي تعود إلى الإرث البحثيّ في التاريخ من القرن الثامن عشر. فتمّ التركيز من جديد على النصّ، فالنصّ هو بداية التأريخ العلميّ والمنهجيّ ونهايته. مع ذلك، لم يستطع مؤرّخو هذه المدرسة أن يرفضوا تماماً اللجوء إلى شهود العيان، إنّما حدث هذا على هامش البحث التاريخيّ. وقد ترافق هذا التهميش بنقد لطرائق نقل المعلومات الشفويّة ولمحتوى التقليد الشفويّ.
هذا كان حال التقليد الشفويّ في مطلع القرن العشرين وخلال العقود الأولى منه. لكن النقد الموجَّه لآلياته سيزول ويتلاشى بعد العام 1945، مع اختراع الحاكي والأشرطة المغنطيسيّة التي ستسمح بـ “تثبيت” الشهادات الشفويّة، مما يجعلها دائمة وقابلة للنقل والدراسة والتحقّق. وسرعان ما بدأت تتطوّر مواضيع هامة، بالنسبة للتوثيق الشفويّ، تتعلّق بالسرّية والخصوصيّة وغير ذلك، في إطار توصيف الموضوع التاريخيّ، ما فتح الطريق لإعادة دمج المصادر الشفويّة في المصادر التاريخيّة لتشكيل علم تاريخ جديد.
نشأة “التاريخ الشفويّ” في أمريكا وانتشاره في أوروبا خلال القرن العشرين
بدأت، منذ العام 1860، أعمال جمع الشهادات الشفويّة على مستوى واسع، على الساحل الكاليفورني، من أجل ردم فجوة غياب المصادر المكتوبة والأرشيفات الإداريّة. ترافقت هذه الحملة بجمع منهجيّ للوثائق النصيّة من كل نوع، بما في ذلك أرشيفات العائلات والشركات… إلخ، وكذلك بحملة نسخ للوثائق التاريخيّة التي لم يكن بالإمكان شراؤها أو جمعها. ويُعدّ ليمان كوبلاند درابر أبا التوثيق الشفويّ الأمريكي، وقد جمع، في العام 1840، ذكريات الجنود السابقين في الثورة الأمريكية وأوائل مستكشفي الغرب الأمريكي، وهي مواد تركها للجمعيّة التاريخيّة في ويسكنسن.
سرعان ما انتظمت هذه البدايات للتوثيق الشفويّ في أمريكا وفق محورين، بدأ أحدهما مبكراً في مطلع القرن العشرين، وتأخّر الثاني حتى ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وهو ما أنتج “مدرستين” في الفكر والممارسة، هما أصل “التاريخ الشفويّ” في الولايات المتّحدة الأمريكية. هاتان المدرستان هما مدرسة شيكاغو ومدرسة جامعة كولومبيا.
طوّرت مدرسة شيكاغو نموذجاً للبحث التاريخيّ الميداني، يرتكز على المقابلات والروايات التي تحكي تاريخ حياة. ارتكزت منهجية روبرت بارك من هذه المدرسة على قاعدتين: أولاً، المراقبة المباشرة وجمع المعطيات مباشرة، ما أدّى إلى تشكيل ملف وثائقي مفصّل ومرتبط بيوميّات البحث؛ وثانياً استخدام طريقة السيرة الذاتية، وسيلةً لمعرفة معمَّقة للواقع الاجتماعي قبل القيام بالتحليل والتفسير. وكان ذلك يعني الخروج من المكتبات لمواجهة العالم الحقيقي ودراسة تنوّع المجتمع وديناميكيّته. وفي مدرسة شيكاغو أيضاً، ميّز وليام توماس وظيفتين في استخدام طريقة السير الذاتيّة: الجمع الموسَّع للعديد من الروايات لرسم محيط وتفاصيل مجموعة من الأشخاص أو السكّان، والسير الذاتيّة المكثّفة والمعمَّقة والمفصّلة والمتعارضة أو المتقاطعة.
أما قسم التوثيق الشفويّ في جامعة كولومبيا فأسسه آلان نيفينز Allan Nivensالذي أدرك أهمية “إنشاء منظّمة تبذل جهوداً منهجية للحصول على توثيق شفويّ أو كتابي من الأمريكيين الأحياء، الذين كانوا شهوداً على مرحلة تبيّن مساهمتهم في الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية”، وهذا ما يسدّ الفجوات الكثيرة في النصوص والمصادر، وهذا ما أصبح فعلاً قسم التاريخ الشفويّ في جامعة كولومبيا الذي تم إنشاؤه في العام 1948 بإدارة آلان نيفينز ولويس ستار.
بدأت أولى التسجيلات في العام 1949 مع اختراع أجهزة الحاكي التسجيليّة. وكانت عبارة عن سير ذاتيّة، وتمّ تفريغ هذه السير ونسخها وكتابتها بشكل منهجيّ. شمل برنامج المقابلات النخب السياسيّة والثقافيّة، إضافة إلى نخبة الاقتصاديّين والعسكريّين والعلماء. وفي العام 1975 بلغ عدد صفحات المقابلات في قسم التاريخ الشفويّ في جامعة كولومبيا 425000 صفحة، تفريغاً من تسجيلات لـ 3500 شاهد ونحو 15000 ساعة تسجيل. وهكذا، أصبحت كولومبيا نموذجاً لجامعات أخرى منذ الخمسينيّات والستينيّات مثل جامعات تكساس وبركلي ولوس أنجلس. في العام 1954، كان عدد مراكز التاريخ الشفويّ في أمريكا أربعة مراكز، وأصبح 316 مركزاً في العام 1973، وتجاوز الألف في العام 1977. نشرت المراكز الأساسية، بدءاً من الستينيّات، تقاريرها عن نشاطاتها وفهارسها (كولومبيا، بركلي…) كما تمّ نشر أوّل دليل منهجي للتوثيق الشفويّ في العام 1966.
ما يميّز مدرسة كولومبيا عن مدرسة شيكاغو هو الاهتمام بإنشاء أرشيف بالدرجة الأولى، وبوضع قواعد صارمة جداً على عملية التفريغ والنقل، ومعايير دقيقة لتسمية المصدر النصيّ، الناجم عن المصدر الشفويّ، بالمصدر العلمي. كما تميّزت بتصنيف الوثيقة وفهرستها وإكمالها بوثائق نصيّة أو تصويريّة، وصولاً إلى إنتاج ملفّ توثيق شفويّ يوفّر مادّة موثَّقة للمؤرّخين في المستقبل.
عودة إلى أوروبا
عاد الاهتمام بالتاريخ الشفويّ إلى أوروبا بعد النتائج الهامة التي تحقّقت في أمريكا، خاصة مع التطوّرات التي حدثت بعد الحرب العالميّة الثانية. ونستطيع متابعة تطوّر التأريخ الشفويّ في إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، وخاصة في فرنسا، كي ندرك أن مدارس التأريخ الشفويّ على اختلافها أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من علم التأريخ المعاصر. ونسلّط الضوء على تطور التأريخ الشفويّ في بريطانيا، على سبيل المثال.
كشف انعقاد المؤتمر الدولي الثاني للتاريخ الشفويّ في إنكلترا، في العام 1978 (عقد المؤتمر الأول في بولونيه الفرنسيّة في العام 1976)، عن وجود تاريخ شفويّ بريطانيّ خاص، كان اهتمامه الرئيسيّ هو تاريخ الطبقات الشعبيّة. وقد ازدهر في بريطانيا تيّار ريفيّ وعمّالي في آن واحد، غير جامعيّ وغير أكاديميّ أيضاً، خلال خمسينيّات القرن العشرين، وارتكز على أعمال ديالكتيكيّين كانوا قد تزايدوا منذ الثلاثينيّات، وعلى كتابة “تواريخ القرى”.
التقى هذا التيّار خلال الستينيات بتيّار آخر أكثر أكاديميّة وجامعيّة، وكان مستلهَماً من أعمال ريتشارد هوغار حول “ثقافة الفقر”، ومن أعمال بول تومسون الذي عمل على تأهيل الطبقة العمّالية الإنكليزيّة. وقد نجح هذا الأخير، مبكراً، في وضع مناهج كميّة للتاريخ الاقتصاديّ والاجتماعيّ في زمنه، واختار الاهتمام بالأفراد أنفسهم، العمّال الحقيقيين. كان اللجوء إلى المصادر الشفويّة في مثل هذا البرنامج أمراً أساسيّاً. وهكذا، فقد تشكّلت مجموعات مدرَّبة ومؤهَّلة من المؤرّخين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيّين، فعملوا على تأسيس “تاريخ مختلف” اجتماعي، يشمل العمل والنساء والتسالي والثقافة… إلخ، وذلك على أساس التاريخ الشفويّ وتاريخ الحياة… كان الجانب السياسي من هذا التوجّه الذي عرف بـ Workshops History هو إرجاع الكلمة للشعب وجعل التاريخ الرسميّ تاريخاً ديمقراطيّاً متمايزاً، مثله مثل تاريخ النخب. لهذا، كان التاريخ الشفويّ البريطانيّ تاريخاً شعبويّاً.
لم يهمل التاريخ الشفويّ البريطاني، مع ذلك، أعلى الهرم الاجتماعي، فكان هناك قطاع نشط جداً اهتمّ بشهادات شفهيّة من النخب الاجتماعيّة والسياسيّة، وقطاع اهتمّ بتاريخ المشاريع والشركات. وفي مجال السياسة والاقتصاد، تأسَّس الأرشيف الشفويّ البريطاني للتاريخ الإداري British Oral Archive and Administrative History في مطلع الثمانينيّات، وهو محفوظ في مكتبة London School of Economics. وقد توالت معه أيضاً أرشيفات تخصّصيّة كثيرة غطّت معظم قطاعات الحياة البريطانيّة.
التأريخ الشفوي العربي المعاصر[2]
ارتبط الاهتمام بالتأريخ الشفوي أولاً بنكبة 1948 واستمرار التهجير الفلسطيني والأزمة الفلسطينية إلى الجيل الثالث والرابع. ونتج هذا الاهتمام عن رغبة الفلسطينين في إقامة صلة بالأرض وأهلها المشتتين. كما ولّد رحيل الجيل القديم، الذي يتذكّر الحياة في فلسطين قبل النكبة، إحساساً بضرورة حفظ التاريخ والتراث وترسيخ هويّة الممانعة.
ليمتدّ الاهتمام بعد ذلك بالتأريخ الشفوي عموماً على أكثر من مركز بحثي في العالم العربي وفي هذا نذكر على سبيل المثال: مشروع “اللاجئون الفلسطينيون وتوثيق التاريخ الشفوي” التابع لمؤسسة القدس للثقافة والتراث، ومشروع “التاريخ الشفوي” التابع لهيئة الوثائق والمحفوظات في سلطنة عمان، ومؤتمر بيروت حول “التاريخ الشفوي” التابع للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومركز التاريخ الشفوي بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية بغزة، والمركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنيّة بالجزائر لتسجيل التاريخ الشفوي، ومؤسّسة وثيقة وطن في سورية.
وفي هذا السياق نشير إلى أن بعض الدول العربية بدأت منذ إعلان اليونسكو عن قائمة التراث اللامادي العالمي تهتم بوضع تراثها اللامادي والشفوي على هذه القائمة، ويمكن أن نورد الموضوعات التي سجلتها بعض بلدان العالم العربي على قائمة اليونسكو للتراث الشفهي اللامادي للإنسانية: الأردن: الحيز الثقافي لبدو البتراء ووادي رم؛ الجزائر: أهليل قورارة، والزاوية الشيخية والمراسم المتعلقة به، والعادات والمهارات الحرفية المرتبطة بزي الزفاف التلمساني (في ولاية تلمسان)، وعادات وطقوس ومراسم السبيبة او الصبيبة في واحة جانت، وركب أولاد سيدي الشيخ / الجزائر. وسلطنة عمان: البرعة؛ والعراق: المقام العراقي؛ وفلسطين: الحكاية الفلسطينيّة؛ ومصر: محلمة السيرة الهلاليّة؛ والمغرب: موسم طانطان، ومهرجان حبّ الملوك في مدينة صفرو، وعادات ودْراية بشأن شجرة الأرغان، ولحميّة المتوسطيّة، والفضاء الثقافي لساحة جامع الفنا في مراكش؛ واليمن: الغناء الصنعاني؛ وموريتانيا: التهيدين (الأدب الملحمي في الشعر الشعبي الموريتاني)، وملحمة تحي الدين الموريسكي.
التحوُّل من التاريخ الشفويّ إلى الأرشيف الشفويّ
ترافقت عودة الاهتمام بالتاريخ الشفويّ في أوروبا بتساؤلات جوهريّة حول الذاكرة والهويّة والوعي القوميّ والوطنيّ، وغذّى ذلك الاحتفال بذكريات عديدة لتاريخ علماء وفنّانين أسّسوا النهضة والأنوار الأوروبيّة، وخاصة بمرور قرنين على الثورة الفرنسيّة. وبدأت المؤسّسات والشركات، هي أيضاً، تتساءل في لحظة الذاكرة هذه عن هويّتها وتاريخها. ومنذ بداية الثمانينيّات، بدأ الجميع يتساءل حول المستقبل، فزاد الاهتمام بالماضي والبحث في الذاكرة والتاريخ الخاص، وبفهم معمَّق لهما.
أدّى ذلك إلى تطوّر تأريخ الشركات والمؤسّسات في المؤسّسات نفسها، وتضاعف عدد الجمعيّات واللجان المختصّة بالتاريخ الشفويّ في كبرى الإدارات وفي الوزارات أيضاً في الدول الأوروبية. ولعبت هذه الأخيرة دوراً هاماً في دمج الأرشيف الشفويّ في التراث المؤسّساتيّ، وفي الدمج النهائيّ لأرشيفها ضمن المصادر التاريخيّة. وتُعَدّ هذه المرحلة فاتحة العلوم الجديدة التي اختصّت بالأرشفة الشفويّة وقواعد المعطيات الناتجة عنها والتأسيس لعلم الأرشيف الشفويّ المعاصر.
يمكن القول إن إعادة إدخال المصدر الشفويّ في الدراسة التاريخيّة، تمّ التحضير له عبر فترات طويلة، وبشكل معمَّق، عبر زعزعة الأسس الفلسفيّة والإبستمولوجيّة “العلمويّة” التي كانت تؤسِّس للمدرسة التاريخيّة الفرنسيّة، وذلك في شقَّيها: التاريخ التقليديّ المسمّى “الوضعيّ” أو “المنهجيّ”، والتاريخ الكمّيّ المعروف بالحوليّات. وأدّت النقاشات والجدالات، التي تطوّرت منذ نهاية الستينيّات، في مجال فلسفة التاريخ، إلى إعادة تقويم روايات الرواة وكلماتهم، وردّ الاعتبار للشهود الفرديين في القراءة التاريخيّة.
جاء التحوّل الكبير في دراسة التأريخ والأرشيف الشفويّين، في العقد الأخير من القرن العشرين، مع تقديم عدّة أطروحات أكّاديميّة لمناهج بحث ارتكزت على مشاريع واسعة أو على دراسة محدَّدة لجانب من مجالات التوثيق الشفويّ (المنهج، التجهيزات التقنيّة، البرمجيّات، التصنيفات…). من جهة أخرى، كان لارتباط التوثيق الشفويّ بهيئات للتاريخ الشفويّ عظيم الأثر في إنتاج مراجع ودراسات بحثيّة وتوصيفيّة وتاريخيّة حول الأرشفة الشفويّة، الأمر الذي عزَّز في النهاية جذب هذا التيّار التاريخيّ للجامعات والبحوث الأكاديميّة.
ويمكن القول إن العقد الأخير من القرن العشرين شهد نسبيّاً وضع الأسس النظريّة والتطبيقيّة للتوثيق الشفويّ، ومهّد بذلك لإعلان اليونسكو في العام 2003 عن لائحة التراث اللاماديّ والشفويّ للعالم.
ومع تعدّد المدارس والاتّجاهات الحديثة في التأريخ الشفويّ المعاصر، فإنّ كافة هذه المدارس تتّفق على أهميّة الآليّات الرئيسيّة التي تمّ التوصّل إليها، حتى الآن، في جمع وتوثيق وأرشفة وبناء قواعد بيانات للذاكرة الحيّة.
[1] أضاف هذه الفقرة حول التأريخ الشفوي في الحضارة العربية من د. محمد الطاغوس.
[2] أضاف هذه الفقرة حول التأريخ الشفوي العربي المعاصر د. محمد الطاغوس.

إعداد: موسى الخوري

عادةً ما تستند كتابة التاريخ إلى شهادات القادة والأعيان الذين كانوا يمثلون السكان. ففي مدينة حيفا الفلسطينية، مثلا، ومنذ أعوام الانتداب إلى عام 1948، كانت هناك علاقات مباشرة بين القادة والأعيان العرب والقيادات اليهودية والبريطانيين، حيث دُوّنت لقاءاتهم وحواراتهم في كتب التاريخ والسياسة، أمّا صوت السكان فلم يُسمع على نحو علني.
في كتابها “حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت وناس” لروضة غنايم، الصادر حديثاً عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” ضمن “سلسلة ذاكرة فلسطين”، تعتمد الباحثة الفلسطينية على الروايات الشعبية لتقديم تقدم صورة مقربة لتاريخ المدينة.
يتتبّع العمل تاريخ خمسة أحياء في مدينة حيفا؛ هي: العتيقة، والكولونية الألمانية، وعبّاس، ووادي النسناس، ووادي الصليب، من خلال روايات ذاتية لأفراد سكنوا هذه الأحياء، يسردون فيها يومياتهم وتاريخ عائلاتهم؛ إذ تجمع هذه المرويات سير الناس وسيرة المدينة وفلسطين عامّة، إضافة إلى صور من ألبوماتهم الشخصية تمثّل انعكاساً للتطوّرات التي طرأت عليها منذ نهاية الفترة العثمانية إلى اليوم.
يرصد الكتاب التغيرات العديدة بعيدة المدى التي مرت بها المدينة خلال الفترة الممتدة من القرن التاسع عشر إلى عام 1948؛ حيث تحولت في مدة زمنية قصيرة نسبيًا من قرية صيّادي سمك إلى مدينة صناعية متطورة، ومركز تجاري مزدهر في المنطقة.
ويوضح كانت الحياة بسيطة في حيفا خلال فترة الحكم العثماني، فلم تتمكن من جذب الناس إلى أرضها إلا في أواخر هذا العهد. وساهم في هذا التطور ميناؤها وسكة الحديد التي كانت تمر جواره، فأصبحت محورًا مهمًّا في المنطقة التي تربط بين أوروبا وأفريقيا وآسيا والجزيرة العربية، ولا سيما مع مساهمة الوافدين إليها من دول أوروبا، منهم على سبيل المثال: المستعمرون الألمان، والمبشرون الفرنسيون، والمبشرون الإيطاليون والبهائيون وغيرهم؛ فجميعهم تركوا بصمات نوعية في المدينة، في المضمار الثقافي والعمراني والاقتصادي.
كان لهذه التغيرات، بحسب المؤلّفة، أثر كبير في النمو السكاني في المدينة؛ إذ جاء كثيرون من سكان القرى والمدن في فلسطين، ومن البلدان العربية المجاورة: أردنيون وسوريون ولبنانيون ومصريون وسودانيون وغيرهم، باحثين عن عمل في المدينة. وجاء موظفون وعمال من اليونان وتركيا وغيرهم، فتطورت المدينة على نحوٍ موسع في ثلاثينيات القرن الماضي، فبرزت الحياة الثقافية في حيفا على نحوٍ مميز، وبدأت تنتشر دور السينما والمسارح والمقاهي والصحافة والكتب وغيرها. فعلى سبيل المثال، بلغ عدد المقاهي في حيفا ما يقارب سبعين مقهى في مطلع أربعينيات القرن الماضي، وهذه الحقائق كتب عنها كثيرون.
ويروي الكتاب تاريخ المدينة عبر سرديات الناس، ويسلط الضوء على قصة مدينة حيفا من زاوية مختلفة، وهي تاريخها من مخزون ذاكرة أهلها؛ أي تحولات المدينة من خلال سردية أهلها، فعلى سبيل المثال، في عدة سرديات روى الناس تجاربهم حينما تمكنوا من العودة إلى بيوتهم بعد انتهاء المعارك في عام 1948، فوصفوا حالها بعد عودتهم إليها؛ إذ تعرضت للغزو والنهب والتدمير. جاء في سردياتهم تفاصيل أكثر بهذا الشأن، فتحدثوا عمن استولى على بيوتهم، وماذا فعلوا من أجل استرجاعها.
وأُسّست الأحياء الخمسة التي يسرد الكتاب قصتها في الفترة الواقعة من منتصف القرن التاسع عشر إلى عام 1948. ولم يوجد في أي مصدر تاريخي ما يوثّق رقميًا الأعوام التي أُسست فيها تلك الأحياء، كما هو حال الأحياء اليهودية التي توثق في أدبياتها العام الذي وضع فيه حجر الأساس لكل مبنى من مبانيها، عدا حي الألمانية، وهو حي غير عربي. وتختلف الأحياء بعضها عن بعض أحيانًا، وتتشابه في أحيان أخرى، فهناك روابط تجمع بين تلك الأحياء، وفوارق كانت قائمة على الانتماءات الدينية أو العرقية أو الطبقية.
مدينة حيفا ذات طبيعة جبلية، وفي الجزء السفلي من المدينة، تركزت المتاجر والأسواق والميناء والسكة الحديدية وورشة الحرفيين، فأسس حيَّ وادي النسناس، مثلًا، سكانُه العرب المسيحيون في نهاية القرن التاسع عشر، وأغلبية من سكن الحي كانوا عائلات من الطبقة العاملة، وقسم كبير من مباني الحي الحجرية بُني بعفوية، منها ما بناه سكانها بأيديهم؛ نذكر على سبيل المثال بيت رجا بلوطين. والحي اليوم يشبه مشهدًا قرويًا، يظهر كأنه قرية عربية صغيرة في داخل المدينة الكبيرة. وأما حي عباس الذي نشأ في فترة الانتداب فقد بُني في الجزء الأوسط من الجبل، فطابع الحي كان أكثر مدنية، وإلى اليوم تشهد البيوت الحجرية الكبيرة والجميلة على وضع سكانها الأصليين، وتدل على انتمائهم إلى الطبقة الوسطى الثرية. أما العتيقة، فقامت على أنقاض حيفا القديمة أيضًا في القرن التاسع عشر، وتطورت في فترة الانتداب على إثر مرور سكة الحديد عبرها. اليوم، يوحي الحي بمكان منكوب. عُزلت الأحياء العربية على مر الأعوام عن الطبيعة؛ فعلى سبيل المثال حي العتيقة يقع على البحر، وكان سكانه صيادي سمك، لكن توسيع الميناء قطع الوصول إلى البحر. واليوم يمر الحي بعملية تدمير، وقريبًا سيندثر ليقوم مكانه حي جديد.
ويعاني حي وادي الصليب المصير نفسه، وهو في حالة انقراض وطمس، فيشبه القرى المهجّرة، ويذكّر بالقرى في ضواحي القدس. أما حي الألمانية فهو مبني على النمط الأوروبي، حيث نرى بيوتًا عديدة يكتسي سطحها الحجرُ الأحمر (القرميد)، ويُستعمل القرميد في أوروبا لتسهيل عملية إنزال الثلج. وفي الثمانينيات من القرن الماضي، اُتخذ قرار بهدم جزء من المباني الألمانية، فاحتجت الناس على ذلك، ونتيجة الاحتجاج قامت مساعٍ ومبادرات فردية من أجل الحفاظ على المباني، وأصبحت تعمل بصفة رسمية من خلال بلدية حيفا. هنا أيضًا نلاحظ ميزة خاصة للمدينة، حيث جمعت بعض المباني التأثيرات المعمارية الأوروبية والعربية؛ فالمنازل في المستعمرة الألمانية قد دمجت أيضًا عناصر بناء محلية مثل النوافذ الواسعة والغرف الكبيرة. إذا وقفتَ على جبل الكرمل ونظرت إلى ما أمامك، لا يمكن إنكار خصوصية مدينة حيفا، فأنت تنظر أمامك وترى في الوقت نفسه سماء وبحرًا وجبلًا، هذه ميزة خاصة بحيفا؛ فالمناظر الطبيعية الجبلية مرئية في كل مكان على الرغم من كثافة البناء.
وبمتابعة قصص الساردين حتى يومنا هذا، يظهر مصير الناس إلى ما بعد النكبة، فالتاريخ لا ينتهي عند نقطة زمنية معينة وهناك استمرارية للحياة. فكتاب “حيفا في الذاكرة الشفوية” يمثل كشف الستار عمّا حدث في الماضي، وهو تجربة كتابة المدينة بأسلوب مختلف، وربما يكون ملهمًا لما يجب أن نفعله اليوم، وذلك بالنظر إلى التدمير المستمر الذي يهدد الوجود الفلسطيني، على نحو ما نجد من تدميرٍ لأحياء حيفا واستمرار في تهويد المكان، وتهميش اللغة العربية والثقافة الفلسطينية في المدينة.
ثمّة صعوبات وتحديات اجتماعية عديدة لا يزال يواجهها أفراد المجتمع الفلسطيني حتى يومنا هذا، أحدها، التمايز الطبقي الظاهر بين سكان القرى والمدن؛ إذ تحرص العائلات الميسورة في مدينة حيفا – نموذجًا لبقية المدن الفلسطينية – على حفظ مكانتها المترفعة عن الانصهار بعلاقات طويلة الأمد مع أبناء الطبقات الأقل شأنًا، وهو ما تعكسه بوضوح ظاهرة النساء العزباوات اللواتي تراوح أعمارهن اليوم بين السبعين والثمانين؛ إذ ترجع علة عدم زواجهن إلى فكرة طبقية لم تُلغها ظروف الحرب والتهجير؛ فحين اضطرت بعض العائلات الفلسطينية من الطبقتين الأرستقراطية والوسطى إلى ترك البلاد، ظلّت عائلات أخرى في المدينة، وكان يصعب على العائلة تزويج بناتها ممن هم أقل مكانة.
وتقول الكاتبة إنّ هذه التجارب ولّدت لديها تساؤلات عن مفهوم الوطن، ومعنى أن يكون الفرد فلسطينيًا. وأنّها وجدت الإجابات في المقابلات التي أجريتها مع الناس، وعبر ألبومات الصور العائلية الخاصة بهم، وفي ثنايا جدران بيوتهم، حيث تمكنت من إعادة تشكيل الماضي الذي كان حاضرًا حيًا يومًا ما، ثم صار حنينًا وذكريات؛ فخلال تلك المقابلات أصبحت البلاد مكانًا ملموسًا، ووجدت أن فلسطين التي نستحضرها غالبًا أشبه بظل مبهم ينعكس في حياة الناس اليومية؛ فهي أصواتهم التي تملأ الأسواق، وشكل الحياة في الميناء وعلى الطرقات، وهي اللغة العربية التي ظلت سائدة منذ قرون في البلاد، والطبيعة التي نراها خلابة في جبالها وسهولها وترابها وبحرها وهوائها. فلسطين هي أسماء العائلات، وأسماء المدن والقرى والأحياء الباقية، وفي المقابل هي الشوارع التي طُمست أسماؤها، والأحلام التي انقطعت وتلاشت. هي روايات الناس الذين عاشوا يحملون ذكرياتهم، وهذه الروايات تمثّل شهادة حية عنها.
يعرض كتاب “حيفا في الذاكرة الشفوية”، بطريقة مباشرة، نحو أربع وأربعين سردية شفوية تمثل شهادات دامغة تشهد على تهجير العرب قسرًا، وحتى إن “هرب” بعضهم، فإن هروبهم كان قسريًا في حالة حرب، وكانوا على يقين بالعودة، فالهروب في تعريف القانون الدولي يُعتبر طردًا أو تهجيرًا؛ إذ جاء في نصه تعريف “التهجير القسري بأنه إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. فالتهجير القسري هو ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات شبه عسكرية، أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء أراضٍ معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلًا منها، ويكون التهجير القسري إما مباشرًا، أي ترحيل السكان من مناطق سكناهم بالقوة، أو غير مباشر عن طريق دفع الناس إلى الرحيل والهجرة”.
يُذكر أنّ روضة غنايم باحثة فلسطينية تعيش في مدينة حيفا. شاركت صورها الفنية والتوثيقية في معارض عدة. تحاضر في جامعات ومراكز ثقافية في موضوعات الهوية والانتماء، وأنسنة المكان والزمان. تُرشد جولات تثقيفية في مدينة حيفا ضمن مشروعها “حي وزقاق”، والذي يشمل محاضرات وورشات عمل في موضوعَي مذكرات الناس والتاريخ الشفوي.

https://alrai.com/article/146771/الرأي الثقافي/التاريخ-الشفوي-شهود-العيان-وضرورة-توثيق-الذاكرة
مفلح العدوان

احمد ابو خليل حكايا الحسين مع الناس كتاب عندي
https://jcss.org/wp-content/uploads/2021/12/%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8F%D8%B3%D9%8A%D9%86-1.pdf

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا على WhatApp