أخبار المؤرخينمقالات

محمد عدنان البخيت مؤرخاً

محمد عدنان البخيت مؤرخاً

بقلم الأستاذ الدكتور: عليان الجالودي

 

ولد محمد عدنان البخيت في مدينة ماحص من محافظة البلقاء، بتاريخ 15/1/1941م، وأكمل تحصيله العلمي لمرحلتي البكالوريوس والماجستير في الجامعة الأمريكية، في بيروت، ثم تابع دراسته لمرحلة الدكتوراه في التاريخ الحديث في مدرسة اللغات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن في العام 1972م.
عمل البخيت في قسم التاريخ في الجامعة الأردنية منذ عام 1972م، وتسنم خلال عمله عدداً من المواقع الأكاديمية والقيادية منها: عميد البحث العلمي، ثم نائباً لرئيس الجامعة الأردنية في الأعوام (1989-1991م)، ثم رئيساً لجامعة لمؤتة (1991-1993م)، ومؤسساً ورئيساً لجامعة آل البيت (1993-2000م)، كما ترأس مجلس أمناء جامعة آل البيت،ومجلس أمناء المركز الوطني لحقوق الإنسان، ونال عضوية العديد من المجالس والمؤسسات الأكاديمية، وترأس هيئة تحرير عدد من المجلات العلمية، وكرم من قبل العديد من المؤسسات الأكاديمية والمحافل العلمية، من أبرزها حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية، ونال العديد من الأوسمة وشهادات التقدير، من أبرزها: وسام الاستقلال من الدرجة الأُولى، ووسام الحسين للتميز والعطاء من الدرجة الأُولى عام 2008م، وجائزة الدولة التقديرية في العام 1992م، وآخرها تكريمه بوسام مئوية الدولة الأردنية من قبل جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم في 25/5/2021 ، بمناسبة عيد الاستقلال الخامس والسبعين، ضمن الرعيل الأول من البناة الذين أسهموا في بناء الأردن عبر مائة عام.
أَنجز البخيت كماً كبيراً من البحوث العلمية والكتب وأعمال التحقيق والتحرير المتصلة بالتاريخ العثماني، وتاريخ العرب الحديث، وتاريخ بلاد الشام والأردن وفلسطين والقدس، باللغتين العربية والإنكليزية، كما أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه المتصلة بتاريخ العرب الحديث().
والكتابة عن قامة علمية وشخصية وطنية كبيرة بحجم شيخنا ومعلمنا البخيت، أمد الله في عمره، والإحاطة بمنجزه العلمي والفكري، وبصماته الإدارية الواضحة، أمر صعب المنال، خصوصاً إذا كان محكوماً بإعداد مقالة محدودة الصفحات والمطلوب اختزال هذا العطاء الثّر بحيز من الكلمات من الصعب أن تفي أستاذنا حقه.
إن مجرد إلقاء نظرة فاحصة على منتج البخيت الفكري تضع الباحث في حيرة أي من الألقاب الجامعة التي نسم فيها تلك القامة العلمية، فهناك الكثير من الألقاب منها: شيخ المؤرخين الشاميين، شيخ المدرسة التاريخية الأردنية ورائدها ومن أرسى قواعدها، شيخ مؤرخي القدس وفلسطين الأمين على وثائقها. وبالمحصلة فإنه يستحقها جميعاً، ولكل منها ما يبرره، فما أنجزه حول التاريخ العثماني، وحول تاريخ البلدان الشامية من دراسات وبحوث وأعمال تحقيق وتحرير، بالاستناد على الوثائق والسجلات من جهة، وجمعه لتلك الوثائق وحفظها في مركز علمي وبحثي متميز، وهو مركز الوثائق والمخطوطات في الجامعة الأردنية، والذي له اليد الطولى في تأسيسه ورعايته ورفده بالوثائق والسجلات والكتب منذ عام 1972م وحتى الآن، بحيث يُباهي أعرق دور الكتب والوثائق ليس فقط في البلاد العربية، بل والعالم أجمع.
ناهيك عن جهوده في إرساء حجر الزاوية للدراسات العلمية والمنهجية حول تاريخ بلاد الشام من خلال المؤتمر الدولي لتاريخ بلاد الشام الذي ترعاه الجامعات: الأردنية واليرموك وجامعة دمشق، وللبخيت اليد الطولى في العمل على بلورته منذ العام 1972م، واستمرارية انعقاده بشكل منتظم، فيكفي أن نشير إلى أنه عُقِدَ حتى الآن ثلاثة عشر مؤتمراً وثقت تاريخ بلاد الشام منذ العصر البيزنطي وحتى النصف الأول من القرن العشرين، شارك فيها المئات من الباحثين العرب والأجانب ببحوث علمية رصينة، ونشرت حصيلة أعمال تلك المؤتمرات في منشورات أثرت المكتبة الشامية بالجديد والمفيد، عكف البخيت على تحريرها وإتاحتها بين أيدي الباحثين والمهتمين.
ويستحق البخيت بجدارة لقب مؤرخ القدس وفلسطين الحارس الأمين على تراثها، سواءً من خلال جهوده في جمع السجلات والوثائق المملوكية والعثمانية، وسجلات المحاكم الشرعية للمدن الفلسطينية: القدس، وحيفا، ويافا، واللد، وعكا، ونابلس، والخليل، وغزة، والرملة، وطبريا، وغيرها، ناهيك عن جهوده في تصوير مخطوطات المكتبات الفلسطينية في القدس ويافا وعكا().
ولولا تصدي البخيت لهذا المشروع الوطني الضخم لضاعت تلك الأصول، ولسطت أيدي الصهاينة عليها،ولطمست في إطار المشروع الصهيوني الساعي إلى طمس تراث فلسطين، الشاهد على عروبتها، وجذورها العربية الإسلامية الضاربة في عمق التاريخ.
ولم يكتفِ البخيت بجمع تلك الوثائق، بل شمر عن ساعد الجد في إثرائها بالدراسات العلمية الرصينة، وقدم خدمة جليلة للتاريخ العربي الإسلامي من خلال دراساته حول تاريخ المدن الفلسطينية وفي مقدمتها القدس، والحفر بعمق في تاريخها الإداري والاقتصادي والاجتماعي، وتحليل مكنوناتها، وتوثيق حياة الناس والأرض والشجر والعمران، واضعاً بذلك حجر الأساس لدراسات علمية رائدة انطلق منها وبنى عليها جيل من تلامذة المدرسة البخيتية، ومضوا على خطاه في إنتاج العديد من الدراسات المنهجية الرصينة في رسائلهم وبحوثهم الأكاديمية، لتبقى شاهداً لا يدمغ على عروبة فلسطين وعظم المنجز الحضاري العربي الإسلامي على ثراها، في مواجهة سيل من الدراسات المزورة التي أنتجتها المدرسة الصهيونية، ومحاولاتها العبثية إثبات حقها المزعوم في فلسطين، وسعي الآلة الإعلامية الصهيونية مدعومة بتلك الدراسات المشوهة إقناع الغرب وصانعي القرار بأن هذه الأرض كانت قفراً، خالية من السكان والحضارة، وأن اليهود هم من صنعوا تاريخها، وهم من أحياها وعمرها. فجاءت دراسات البخيت وطلبته شاهداً لا يدمغ على غنى التاريخ الفلسطيني، ومنجز الإنسان العربي الفلسطيني الحضاري.
ويستحق البخيت بجدارة لقب رائد المدرسة التاريخية الأردنية، وريادته هنا تتجسد بعدة مظاهر، نجملها فيما يلي:
أولاً: جمع الوثائق والمظان التاريخية ذات الصلة بتاريخ الأردن، سواءً الوثائق العثمانية، وسجلات الطابو، ودفاتر المالية، والمهمة، والسالنامات، وسجلات المحاكم الشرعية التي تعود للمدن والقصبات الأردنية، وكتب الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الأردن أو مروا به خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والصحف، والمذكرات، والأوراق الشخصية، إضافة للكتب والدراسات، وتوفيرها ورقياً أو على شكل (ميكروفيلم) أو أشرطة ممغنطة، وإتاحتها للباحثين والطلبة من رواد مركز الوثائق والمخطوطات().
ثانياً: الريادة في إعداد البحوث والدراسات المبنية على سجلات الطابو العثمانية التي أعدها البخيت منفرداً، أو بالاشتراك مع باحثين آخرين في طليعتهم المرحوم الأستاذ الدكتور نوفان السوارية. وتعد تلك الدراسات نماذج رائدة سواء من خلال المنهجية الصارمة في ترجمة تلك النصوص عن اللغة التركية، والمنهجية الرصينة في تحقيق النصوص والدراسات الضافية لمحتواها، وشكلت بالمحصلة النهائية نماذج احتذاها عدد من الطلاب الذين عكفوا على دراسة هذه السجلات، وتوظيفها في بحوثهم ودراساتهم().
ثالثاً: الجهود البارزة في نشر وثائق الديوان الملكي الهاشمي التي تعود إلى عهد المغفور له الملك عبد الله الأول بن الحسين (1921-1951م)، والتي تم نشرها تحت إشراف البخيت باسم “الوثائق الهاشمية”، وصدرت أعمال هذه السلسلة على مرحلتين:
الأولى: ما بين عامي (1993-2001م)، صدرت عن جامعة آل البيت.
الثانية: منذ عام (2014م) وحتى الآن، وتولى مركز الوثائق والمخطوطات ودراسات تاريخ بلاد الشام في الجامعة الأردنية إصدارها، وبلغ ما صدر منها حتى اليوم ثلاثين مجلداً، وزودت هذه الوثائق بفهارس تحليلية شاملة لتيسير الإفادة منها، وحوت وثائق تاريخية قيّمة عن تاريخ الأردن في الحقول السياسية والاقتصادية، وعلاقات الأردن العربية والدولية، ووحدة الضفتين()، وقدم البخيت بالتصدي لنشر هذه الوثائق خدمة جليلة للتاريخ الأردني، وغدت هذه المجموعات الوثائقية مصدراً للكثير من الدراسات ذات الصلة بتاريخ الأردن، وحصر الدراسات التي أفادت منها أو بنيت عليها هي من الكم، بحيث يصعب حصرها في هذه العجالة()
رابعاً: وللبخيت منجزاً آخر من المهم الإشارة إليه، ألا وهو دوره في تعزيز البحث العلمي وبتأسيسه والنهوض بالمجلات العلمية المحكمة، والمجلات الثقافية في المؤسسات الأكاديمية التي تسنم إدارتها، فعندما شغل منصب عميد البحث العلمي في الجامعة الأردنية خلال السنوات (1984-1989م)، دفع بالنشر العلمي دفعة مهمة، إذ فتح باب النشر على مصراعيه، فنشرت العديد من الدراسات المتخصصة والمؤلفات ووقائع الندوات والمؤتمرات، والكتب التذكارية، كما خطت مجلة دراسات المجلة العلمية المحكمة التي تصدرها عمادة البحث العلمي، خطوات متقدمة، وأصبحت تصدر في عدة سلاسل تغطي شتى جوانب المعرفة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والعلوم التطبيقية، والعلوم البحثية().
وخلال فترة عضويته في جمعية الشؤون الدولية، كان وراء تأسيس مجلة الندوة وحررها لسنوات، ونشر وشجع على النشر فيها العديد من المقالات في ميادين السياسة المحلية، والعلاقات الدولية.
وخلال فترة رئاسته لجامعة مؤتة (91-1993م)، أعطى البحث العلمي زخماً يذكره له الفريق الذي عمل بمعيته، سواء من خلال عقد المؤتمرات المتخصصة، أو من خلال إصدار الصحف والمجلات، ومنها جريدة مؤاب الطلابية، ومجلة “راية مؤتة” الثقافية، كما خطت مجلة “مؤتة للبحوث والدراسات” المحكمة خطوات متقدمة، سواء من حيث التنوع في أبواب المجلة، أو التوسع في إصدارها، ناهيك عن نشر قائمة من المؤلفات والبحوث المتخصصة من إنتاج أعضاء هيئة التدريس في الجامعة().
وخلال تأسيسه ورئاسته لجامعة آل البيت (1993-2001م)، أولى المناشط الفكرية والطلابية جُلّ اهتمامه، فكانت الجامعة شعلة نشاط، وشهدت زخماً في عدد المؤتمرات والندوات وورش العمل، والمحاضرات العامة، كما نشرت العديد من المؤلفات الأكاديمية المتخصصة، وأعمال الندوات والمؤتمرات، كما ساهم في إنشاء ورعاية عدد من المجلات في مقدمتها مجلة المنارة كمجلة علمية محكمة، ومجلة البيان الثقافية، ومجلة الزهراء الإخبارية، وجريدة الشورى الطلابية()، ولعل ذروة إنجازات البخيت في المجال الأكاديمي والبحثي، تأسيس ورئاسة تحرير المجلة الأردنية للتاريخ والآثار في العام 2006م التابعة لوزارة التعليم العالي، والموطنة في الجامعة الأردنية لتكون بذلك أولى المجلات المتخصصة في حقل التاريخ والآثار على مستوى الأردن، ومن بين بواكير المجلات العلمية المتخصصة على المستوى العربي، صدر العدد الأول منها بتاريخ 31/آذار/2007م، ولا زالت تصدر بانتظام بواقع أربع أعداد سنوياً، وكان لجهود البخيت وهيئة تحرير المجلة الفضل الأكبر في السمعة العلمية الطيبة التي تحظى بها المجلة الآن في الأوساط الأكاديمية، والتي توجت في هذا العام 2021 بالحصول على معايير اعتماد معامل أرسيف (Arsif) المتوافقة مع المعايير العالمية ضمن تخصص التاريخ والجغرافيا، وصنفت ضمن الفئة الأولى (الأولى Q1).

خامسا: توجهت الجهود السابقة للأستاذ البخيت بتوجيه طلبة الدراسات العليا لمرحلتي الماجستير والدكتوراة في إعداد دراسات أكاديمية على درجة عالية من الرصانة والمنهجية العلمية حول تاريخ الأردن خلال عصر التنظيمات العثمانية وحتى تأسيس الإمارة (1864-1921م) وترجمة تلك الدراسات مشروع البخيت في التأسيس للمدرسة التاريخية الأردنية في الدراسات العثمانية التي انصبت أساساً على دراسة ما أمكن جمعه وتيسيره للباحثين من مصادر متنوعة، وكانت هذه المصادر حتى الثمانينات من القرن المنصرم مجهولة أمام كثير من الباحثين، وبالتالي أسهمت في حصيلتها في تصحيح التصور الخاطئ الذي تداوله بعض من أرخوا للأردن سابقاً، مستندين بشكل أساسي على الوثائق البريطانية التي تؤرخ للأردن بعد قيام الأمارة عام 1921م، وهذا الفهم القاصر مفاده أن شرقي الأردن كانت مهملة، وكان اهتمام الدولة العثمانية بها ينحصر في فترة محدودة، وهي فترة مرور قافلة الحج الشامي، ثم تعود بعد ذلك إلى حالة من الحكم الذاتي.
لقد أثبتت تلك الدراسات بما استطاعت جمعه وحصره من مصادر ووثائق متنوعة خطل تلك المقولة، والمتتبع لتلك الدراسات والرسائل الجامعية التي أشرف عليها البخيت يجدها على مرحلتين:
الأولى: رسائل ماجستير أعدت في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي، تناولت التشكيلات الإدارية على مستوى الأقضية، والألوية، والجماعات الاستيطانية خلال الفترة ما بين تطبيق قانون الولايات العثماني في عام 1864م وحتى نهاية الحرب الكونية الأولى، وتعمقت في دراسة الجغرافيا التاريخية، والتنظيم الإداري، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وكان لتلك الدراسات فضل السبق والريادة في التأسيس لدراسة تاريخ الأردن خلال حقبة التنظيمات العثمانية().
الثانية: رسائل دكتوراة وجه البخيت فيها طلابه لدراسة تشكيلات إدارية أصغر تناولت نواحي بني جهمة، وعمان، والسلط، وتعمقت هذه الدراسات في دراسة وتحليل محتوى المصادر المعنية بتاريخ تلك القصبات().
لقد كان الصيد وفيراً، فغدا طلبة البخيت الرواد الذين تتلمذوا على يديه، وتشربوا منهجيته، وتعمقوا في دراسات المصادر وتحليل مكنوناتها امتداداً لمدرسة البخيت، سواء بتحقيقاتهم ونشر بحوثهم ودراساتهم في حقل تاريخ الأردن المعاصر، أو من خلال إشرافهم على طلبتهم لمراحل الماجستير والدكتوراه().
وليس هذا فحسب، وإنما اتسعت دائرة الاهتمام لتشمل عدداً من الأساتذة، ممن هم من زملاء البخيت في قسم التاريخ في الجامعة الأردنية، ليحذوا حذوه في الكتابة حول الحقبة العثمانية، وحقبة التاريخ المعاصر، كما تصدى بعضهم للإشراف على طلبة كتبوا عن تشكيلات إدارية أصغر على مستوى الأقضية والنواحي، واتسعت دائرة الاهتمام لتشمل أساتذة آخرين في أقسام التاريخ في جامعة اليرموك وجامعة مؤتة، بحيث يمكننا القول بكل ثقة بأننا أمام مدرسة تاريخية أردنية مكتملة الأركان، وواضحة الملامح في دراسة تاريخ الأردن الحديث والمعاصر.
ويسجل للبخيت بكل أمانة وموضوعية فضل السبق والريادة في إرساء قواعد تلك المدرسة، وتحديد سماتها المنهجية، ورسم الإطار العام لخطة البحث وتحديد المصادر.
ولا ننسى في هذا السياق رعاية البخيت لطلابه بعد التخرج، واستثمار علاقاته بنشر رسائلهم وبحوثهم، بدعم من عدد من المؤسسات الثقافية والبنوك الوطنية، كما له اليد الطولى في الأخذ بأيدهم للالتحاق بالعمل الأكاديمي في الجامعات، وكان لنشر تلك الدراسات فرصة أتاحت المجال أمام الباحثين والمهتمين للاطلاع عليها، بدلاً من أن تبقى مخطوطة وقابعة في زوايا المكتبات، كما أن التحاق طلابه بالعمل في أقسام التاريخ في الجامعات ومراكز البحوث أن أَسهم هؤلاء بالنهوض بعبء البحث والتدريس والإشراف على الرسائل الأكاديمية، مما أتاح لخريجي تلك المدرسة استمرارية العطاء، والسخاء في العطاء.
ويدرك تلاميذ البخيت – وأنا أحدهم – أن البخيت في تعامله مع طلابه يجمع إلى جانب الصرامة والمتابعة الحثيثة لمسيرة طلابه وقراءته المتأنية لحصاد جهدهم في جمع المادة الأولية من المصادر التاريخية، وفي إعداد الفصول كان لها أثرها البارز في صقلهم منهجياً، وبالرغم من الصرامة التي تبدو على محياه، إلا أنه يخفي تحتها قلباً حانياً، وأباً كبيراً يحنو على طلابه، ويذلل الصعوبات التي تعترض مسيرتهم، وتسبق اتصالاته مع الدوائر والمؤسسات والجهات التي يوجههم إليها خطواتهم، بحيث يجدوا توصية منه تسبقهم، مما يسهم من ثم- إكراماً لأستاذهم – فتح كل الأبواب المغلقة، وبالمحصلة صيد وافر من الوثائق والسجلات، ما كان ليتاح لهم الاطلاع عليها دون عون البخيت لهم.
والأمر الآخر الذي لا يمكن إغفاله هو شخصية البخيت الإداري، فهو بحق من بين قلائل ممن تسنموا سدة الإدارة في مؤسساتنا الأكاديمية،ممن يجمع بين المقدرة العلمية والكفاءة الإدارية، ويملك شخصية إدارية فذة قادرة على استشراف المستقبل، واستنهاض همم العاملين بمعيته من أكاديميين وإداريين، ناهيك عن قدرته في السيطرة على تفاصيل الأمور ودقائقها، ورؤيته الاستشرافية التي كان يغذي بها المجالس الأكاديمية والإدارية في النهوض بتلك المؤسسات، إلى جانب ما يتحلى به من فراسة في حسن اختيار الفريق الذي يعمل إلى جانبه من كفاءات أكاديمية وإدارية، وبالمحصلة نجح البخيت أيما نجاح في إدارته، وغدت تلك المؤسسات خلال العهود التي تولى فيها إدارتها شعلة في النشاط، وترك رصيداً من الإنجاز يحمد له().
ولا أنسى في هذا السياق اهتماماته الإنسانية بالعاملين بمعيته وتواصله الإنساني معهم، ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم مما ترك أثراً طيباً، وذكراً جميلاً يحفظ له، ويعترف بفضله كل من عمل بمعيته.
السمات المنهجية في بحوث البخيت ومؤلفاته:
يحمدُ لمؤسسة عبد الحميد شومان العنوان الجامع الذي اختارته للندوة التي نظمت على مدار يومين في العام 2008م، ونشرت حصيلة أوراق المشاركين في الندوة في العام 2010م، تحت عنوان: “محمد عدنان البخيت مؤرخاً وموثقاً وأستاذاً ومؤسساً”، جمعت بين دفتيها أوراق علمية تناولت بحوثه ومؤلفاته ومنجزه القيادي والإداري، أعدت من قبل أساتذة عرفوا البخيت عن كثب زملاء، وإداريين وطلبة عملوا بمعيته، أو أشرف على رسائلهم العلمية.
ومن يمعن النظر في مجمل إنتاج البخيت البحثي، سواء كانت جهوداً بحثية منفردة، أو جهوداً بالاشتراك مع آخرين، يلاحظ أن ذلك الإنتاج ينضوي تحت عدة اتجاهات():
الأول: دراسات تناولت التاريخ العثماني عامة، أو دراسة بعض الأعلام في التاريخ الحديث، من بينها دراسة عن الأمير حسين بن الأمير فخر الدين المعني الثاني، وعن آل الحنش في ريف دمشق، وأُخرى عن السيد محمد المرتضى الزبيدي.
الثانية: دراسات تناولت تاريخ بلاد الشام، يأتي في مقدمتها أطروحة للدكتوراه التي أعدها في مدرسة اللغات الأسيوية والأفريقية، ونشرها عام (1981م) تحت عنوان:
The Ottoman Province of Damascus in the 16th Century, Beirut, 1982.
إلى جانب غيرها من الدراسات التي تناولت عدداً من المدن الشامية، دمشق، حلب، بيروت، صيدا، طرابلس().
الثالثة: كتب وبحوث تناولت تاريخ البلدانيات الفلسطينية من خلال الوثائق العثمانية، شملت: القدس، وحيفا، ومرج بني عامر، واللجون، والرملة، واللد، ونابلس، وبيت لحم، وبيت جالا، وأريحا وجوارها().
الرابعة: كتب وبحوث تناولت تاريخ الأردن في العهد العثماني في طليعتها كتابه عن مملكة الكرك في العصر المملوكي، وهو بالأصل أطروحته للماجستير، من الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1965م، وما كتبه عن معان وجوارها، وناحية بن الأعسر، وبني كنانة، وبني جهمة، ودفاتر مفصل لواء عجلون في القرن 10هـ/16م().
الخامسة: تحقيق المخطوطات ونصوص الرحلات في مقدمتها كتاب المنازل المحاسنية في الرحلة الطرابلسية، ومذكرات الدكتور جميل التوتنجي، وكتاب التمييز لحسين بن فخر الدين المعني، وتاريخ القدس والخليل للشيخ الخليلي، وحادي الأظعان النجدية لمحب الدين الحموي().
السادسة: إصدار الفهارس التحليلية والكشافات لسجلات المحاكم الشرعية في الأردن وفلسطين، والفهارس التحليلية لسجلات القدس، وفهرس المخطوطات المصورة، وفهارس دفاتر الطابو المحفوظة في مركز الوثائق والمخطوطات().
السابعة: أعمال الإعداد والتحرير، في مقدمتها تحرير موسوعة تاريخ البشرية، وأعمال مؤتمرات تاريخ بلاد الشام، وأعمال اللجان والندوات الصادرة عن عمادة البحث العلمي في الجامعة الأردنية، وتحرير تاريخ مدينة القدس عبر العصور().
الثامنة: الإشراف والمشاركة وإعداد الوثائق الهاشمية ونشرها (أوراق عبد الله بن الحسين)، وصدر منها حتى الآن (30) ثلاثون مجلداً().
التاسعة: المقالات التي كتبها بالإنجليزية للموسوعة الإسلامية الطبعة الجديدة، ناهيك عن مقالات نشرها في مجلة الندوة التي تصدر عن جمعية الشؤون الدولية، وكان البخيت يتولى تحريرها، ناهيك عن ما نشر في الصحف الأردنية والسعودية، وكلماته الافتتاحية في افتتاح الندوات والمؤتمرات التي تعقد في الجامعات ومراكز البحوث، والتي لو قدر لها من يجمعها ويدرسها لكانت ثروة معرفية تنبيء عن جانب مهم في شخصية البخيت وتكوينه الفكري().
إن القراءة المتأنية لمؤلفات البخيت وبحوثه المتخصصة يلمس الباحث من خلالها ملامح منهجية البخيت كمؤرخ ملتزم بالموضوعية والنزاهة والحيادية، في إطار البحث عن الحقيقة التاريخية، وعدم تحميل النصوص أكثر مما تحتمل، وهي سمة أساسية في تكوين المؤرخ، ناهيك عن تركيزه على دراسة التاريخ الحضاري وتاريخ النظم والمؤسسات، متجاوزاً بذلك الدراسات التي ركزت على التاريخ السياسي، ودور الأفراد في التاريخ، التي وسمت كتابات مؤرخي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، وتوصف جهوده البحثية بالإحاطة والشمول بمصادر التاريخ الحديث، فلا يقتصر عمله على مصادر بعينها، أو روايات منفردة، أو دراسات حديثة كما يفعل بعض المتصدين للكتابة التاريخية، وإنما نراه يوظف المصادر الأولية، ويبنى عليها استنتاجاته، مما يعطي تلك الاستنتاجات سمة المصداقية.
والتزم البخيت بالمنهج العلمي الأمثل في تحقيق النصوص والمقابلة بين المخطوطات، إِذ يعمد إلى دراسة تحليلية ضافية لمحتوى تلك النصوص، فهو لا يكتفي بنشر النصوص المحققة وسجلات الطابو والمالية المدورة كما هي، وإنما يثري تلك النصوص بتحليلات علمية شمولية مبنية بالأساس على محتوى النص الأصلي، ورفد النص المحقق والدراسة بالمزيد من الإحالات إلى البحوث، والدراسات، والاستشهادات التي تعين القارئ المتخصص، ناهيك عن الثروة المعرفية من تعريف المصطلحات والأمكنة والأعلام التي تعين القارئ على الإفادة من تلك النصوص.
ونراه يلج مولجاً صعباً في التصدي لتحقيق النصوص باللغة التركية (العثمانية) ويترجمها مع زميله الحمود، ترجمة دقيقة، وهو أمر يُحجم الكثيرون عن خوض غماره؛ لصعوبة التعامل مع لغة تلك النصوص، وصعوبة قراءة الخطوط والمصطلحات، وهو بعمله هذا وضع بين أيدي الباحثين والطلبة، نماذج علمية وعملية رائدة للاقتداء بها، والسير على خطاها عند التعاطي مع تلك النصوص، ونرى ذلك واضحاً في تأثيره المنهجي في طلبته الذين ارتسموا خطاه، وتأثروا بمدرسته، وشكلوا امتداداً له، وجسراً عبر عليه غيرهم من الطلبة والباحثين، بحيث أخضرت وأثمرت وأتت أكلها ثماراً ناضجة. وحسب الأستاذ أن يترك بصمات في تكوين الأجيال اللاحقة، ليستمر العطاء والسخاء في العطاء جيلاً تلو جيل.
إن إهتمام البخيت بالتاريخ القُطْري المحلي وتواريخ المدن والحواضر، لا يمكن عده بحال من الأحوال ترويجاً للقُطْرية، وإنما يفهم في إطار التركيز على دراسة الجزئيات، والحفر في تفاصيل التاريخ الإداري، والاقتصادي، والاجتماعي، وتنوع النسيج الاثني والمذهبي،بعيداً عن النظرة المسبقة، والتنظير السياسي، والتعمق في الجزئيات في إطار الوحدة الشاملة لتاريخ الأمة.
وتتسم مؤلفات البخيت حول التاريخ الحديث عموماً، وتاريخ الولايات العربية والبلدانيات الشامية في ظل الحكم العثماني خصوصاً، بنظرة موضوعية تجتهد لتبديد سوء الفهم، والنظرة غير الموضوعية التي أنتجتها الكتابات ذات اللون القومي في فترة الخمسينات والستينيات من تشويه متعمد أحياناً، وعن جهل أحياناً أخرى، في إطار الدفاع عن القومية العربية لصورة الدولة العثمانية، وتصدي البخيت لذلك السيل من الدراسات، وساهم ببحوثه ودراساته في تقديم نظرة موضوعية واعية، توازن بين الإيجابيات والسلبيات في التاريخ العثماني، فساهم بعمق في تبديد سوء الفهم، كما أنه في دراساته تجاوز نظرة أولئك المسكونين بهوس الخلافة وإعادة إحيائها الذين عظموا الإيجابيات، وأهملوا عن قصد السلبيات في التاريخ العثماني.
والبخيت وطني محب لوطنه الأردن، مثلما هو معتز بعروبته، مسكونا بالتأصيل لتاريخه، وهو في مقالاته ناقد للممارسات السلبية التي يمارسها الأفراد والمؤسسات، يسلط الضوء على مظاهر الخلل، ويسعى لتقويم المسيرة مما يعتريها من إعوجاج، وهو جريء في قول الحق.
وفي الختام، لقد ترجم شيخنا البخيت انتماءه الإسلامي العروبي، ووطنيته الأردنية من خلال عمل دؤوب في البناء والإنجاز، بعيداً عن التنظير، وخدم تراث الأمة وتاريخها وعروبة مقدساتها من خلال حفظ وثائقها، ودراسة تراثها ونشره نشراً علمياً محققاً، وما أمكننا أن نلفت الانتباه إليه من جهود في هذه العجالة، أمر يسير، قياساً بضخامة منجزه، والذي تجسد على أرض الواقع من خلال مسيرة حافلة بالإنجاز على الصعيدين البحثي والإداري، وسيبقى شاهداً لا يدمغ، ونبراساً للآخرين ليحتذوا حذوه.
لقد كان البخيت – وما يزال- عروبي الانتماء، خدم وطنه الأردن وتوأمه فلسطين، وعمل بإخلاص على الحفاظ على هوية القدس العربية الإسلامية، ونهض بعبء تقصر عنه مؤسسات، رائده في ذلك قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا على WhatApp